قال الرئيس عبد الفتاح السيسي فى القمة العربية ، اليوم الأحد، إن الأمن القومى العربى يواجه تحديات غير مسبوقة، مشددا على أننا نحتاج لاستراتيجية شاملة لمواجهة تهديدات الأمن القومى القائمة.
وقال السيسي، فى كلمته خلال الجلسة الافتتاحية للقمة العربية فى دورتها العادية الـ29، إن هناك دولا إقليمية تؤذى حقوق الجوار، وهناك جيش دولة إقليمية يتواجد على أرض بلدين عربيين، مؤكدا كامل دعم مصر والدول الشقيقة للشعب الفلسطينى فى الحصول على حقوقه المشروعة.
وفيما يلى، ننشر النص الكامل لكلمة الرئيس عبد الفتاح السيسي أمام القمة العربية العادية الـ29، المنعقدة فى مدينة الظهران بالمملكة العربية السعودية، بحضور عدد من الملوك والرؤساء والأمراء العرب.
(بسم الله الرحمن الرحيم
جلالة الأخ الكريم الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود
خادم الحرمين الشريفين وعاهل المملكة العربية السعودية الشقيقة،
أصحاب الجلالة والفخامة والسمو والسعادة،
معالى السيد أحمد أبو الغيط أمين عام جامعة الدول العربية،
السيدات والسادة،
أود بداية أن أُعرب عن سعادتى لوجودى معكم اليوم، وأن أعبر عن خالص الشكر والتقدير لأخى جلالة الملك عبد الله الثانى بن الحسين، عاهل المملكة الأردنية الهاشمية الشقيقة، لما بذله من جهد دؤوب، خلال ترؤسه لأعمال الدورة الماضية للقمة العربية.. وإننى على ثقة فى أن حكمة خادم الحرمين الشريفين، الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود، سوف تمنح زخما كبيرا لآليات العمل العربى المشترك.. وأؤكد أن مصر لن تألو جهدا فى سبيل دعم رئاسة القمة والدول الشقيقة، وكذا جهود الأمين العام لجامعة الدول العربية، بهدف تحقيق المصالح العربية.
أصحاب الجلالة والفخامة والسمو،
يأتى اجتماعنا اليوم، والأمن القومى العربى يواجه تحديات غير مسبوقة.. فهناك دول عربية تواجه لأول مرة منذ تاريخ تأسيسها تهديدا وجوديا حقيقيا، ومحاولات ممنهجة لإسقاط مؤسسة الدولة الوطنية، لصالح كيانات طائفية وتنظيمات إرهابية، يمثل مشروعها السياسى ارتدادا حضاريا كاملا عن كل ما أنجزته الدول العربية منذ مرحلة التحرر الوطنى، وعداءً شاملا لكل القيم الإنسانية المشتركة، التى بشرت بها جميع الأديان والرسالات السماوية.
وهناك دول إقليمية، تهدر حقوق الجوار، وتعمل بدأب على إنشاء مناطق نفوذ داخل الدول العربية، على حساب مؤسسات الدولة الوطنية بها.. إننا نجتمع اليوم، وجيش إحدى الدول الإقليمية متواجد على أرض دولتين عربيتين، فى حالة احتلال صريح لأراضى دولتين عربيتين شقيقتين.. وهناك اجتماعات تجرى لتقرير مصير التسوية، وإنهاء الحرب الأهلية الشرسة التى أزهقت أرواح ما يزيد على نصف المليون سورى، بدون مشاركة لأى طرف عربى، وكأن مصير الشعب السورى ومستقبله بات رهنا بلعبة الأمم، وتوازنات القوى الإقليمية والدولية.
وفى الوقت نفسه، هناك طرف إقليمى آخر، زيّنت له حالة عدم الاستقرار التى عاشتها المنطقة فى السنوات الأخيرة، أن يبنى مناطق نفوذ باستغلال قوى محلية تابعة له، داخل أكثر من دولة عربية.. وللأسف الشديد، فإن الصراحة تقتضى القول إن هناك مِنَ الأشقاء مَن تورّط فى التآمر مع هذه الأطراف الإقليمية، وفى دعم وتمويل التنظيمات الطائفية والإرهابية.
وهناك أيضا الجرح الفلسطينى النازف، وشهداء فلسطين الذين يسقطون كل يوم… قضية العرب المركزية التى توشك على الضياع، بين قرارات دولية غير مفعلة، وصراع الأشقاء أصحاب القضية الذى يستنزف قواهم ومواردهم الضئيلة، ويفتح الباب أمام مَن يريد تكريس واقع الاحتلال والانقسام كأمر واقع، ويسعى لإنهاء حلم الشعب الفلسطينى الشقيق فى الحرية والدولة المستقلة.
لهذا، فإننى لا أبالغ، إن قلت إن بلادنا ومنطقتنا تواجهان أخطر أزمة، منذ استقلالها وانتهاء حقبة التحرر الوطنى، وعلينا جميعا تقع مسؤولية كبرى فى وقف هذا التردى فى الأوضاع العربية، واستعادة الحد الأدنى من التنسيق المطلوب لإنقاذ الوضع العربى، والوقوف بحزم أمام واحدة من أخطر الهجمات التى عرفتها الدولة الوطنية فى المنطقة منذ تأسيسها.
إننا بحاجة اليوم لاستراتيجية شاملة للأمن القومى العربى، لمواجهة التهديدات الوجودية التى تواجهها الدولة الوطنية فى المنطقة العربية، وإعادة تأسيس العلاقة مع دول الجوار العربى على قواعد واضحة، جوهرها احترام استقلال وسيادة وعروبة الدول العربية، والامتناع تماما عن أى تدخل فى الشأن الداخلى للدول العربية.. لقد سبق وطرحت مصر عددا من المبادرات لبناء استراتيجية فعالة وشاملة للأمن القومى العربى، وتوفير مقومات الدفاع الفعال ضد أى اعتداء أو محاولة للتدخل فى الدول العربية..
وإننى على ثقة من أنه بالإمكان التوصل لهذه الاستراتيجية الشاملة، إذا توافرت الإرادة السياسية الجماعية، وصَدَقَ العزم على التعاون لاستعادة زمام المبادرة، بشكل يُفضى إلى وقف الانتهاك المتكرر لسيادة واستقلال بلادٍ عزيزة من دول أمتنا العربية.
أصحاب الجلالة والفخامة والسمو،
لا بد من أن نبدأ بفلسطين.. إن ما قدمه ويقدمه الشعب الفلسطينى من تضحيات على مدار عقود، تضع الضمير الإنسانى كله على المحك.. إن قضية نضال الشعب الفلسطينى ليست قضية العرب وحدهم، ولكنها قضية الحق فى مواجهة القوة.
لقد كان مشروع القرار الذى شاركت مصر فى إعداده، وأقرته الجمعية العامة للأمم المتحدة فى ديسمبر الماضى بأغلبية 128 دولة، دليلا جديدا على أن الحق العربى فى القدس حق ثابت وأصيل، غير قابل للتحريف أو المصادرة، ومال زال العرب متمسكين بخيار السلام خيارا استراتيجيا وحيدا، وما زالت المبادرة العربية للسلام هى الإطار الأنسب لإنهاء الاحتلال، وتجاوز عقود من الصراع الذى أتى على الأخضر واليابس، لتبدأ مرحلة من البناء آن لشعوبنا أن تجنى ثمارها.
إن على المجتمع الدولى كله مسؤولية واضحة لا لبس فيها للوقوف أمام سياسات تكريس الاحتلال، وخلق حقائق جديدة على الأرض، ومحاولة مصادرة الحقوق الفلسطينية فى الأراضى المحتلة، وفى القلب منها القدس الشرقية، بل وحتى حرمان الشعب الفلسطينى من أبسط الحقوق والخدمات، عبر الأزمة التى تواجهها وكالة غوث وتشغيل اللاجئين (أُنُرْوَا)، نتيجة عدم توفير الأموال الزهيدة التى تحتاجها لتوفير الحد الأدنى من مقومات البقاء لخمسة ملايين لاجئ فلسطينى.. وهو أمر يمس بشدة وإجحاف بقطاع واسع من أبناء الشعب الفلسطينى.
إنّ المسئولية تقتضي منّا أيضا أن نقوم بنقد الذات، فما كان للحق الفلسطينى أن يتعرض لأشرس هجمة لمصادرته وإسقاطه، لو لم تكن حالة الانقسام الفلسطينى التى تدخل عقدها الثانى.. وبكل صراحة أقول، لا يجب السماح بأن يكون استمرار الانقسام الفلسطينى ذريعة لإبقاء واقع الاحتلال.. إن مصر تعمل بكل دأب مع الأشقاء الفلسطينيين لطىّ هذه الصفحة الحزينة من تاريخهم، وقد آن الأوان لرأب هذا الصدع غير المبرر، وتجاوز اعتبارات المنافسة الحزبية لصالح إعلاء كلمة الوطن، واستعادة وحدة الصف الفلسطينى التى هى شرط ضرورى لخوض معركة التفاوض والسلام واسترداد الحق.
أصحاب الجلالة والفخامة والسمو،
أينما نولّى أنظارنا فى المنطقة، من العراق إلى اليمن، ومن سوريا إلى ليبيا، نجد نفس الخطر الذى يداهم جميع دولنا العربية، خطر التنظيمات الإرهابية والكيانات الطائفية التى تبتذل الإيمان الدينى والتنوع الثقافى فى منطقتنا، لتصادر الآفاق الرحبة للتعاون والتسامح والإثراء الثقافى لصالح خيالها المريض، الذى يعادى الحضارة الإنسانية، ولا يتصور العلاقة بين البشر إلا فى صورة صراع دموى ومباراة صفرية.
وإننى أثق أنكم تتابعون جميعا، الجهود الجبارة التى تقوم بها القوات المسلحة والشرطة المصرية فى معركة الحياة والشرف، معركة سيناء 2018، التى تتواصل نجاحاتها يوما بعد يوم، لدحر قوى الشر والإرهاب التى لا تهدد مصر وشعبها فحسب، بل تهدد المنطقة والحضارة الإنسانية بأسرها.
إن معركتنا جزء أساسى من حرب شاملة، يجب أن نتضافر جميعا لخوضها ضد التنظيمات الإرهابية أينما وُجدت.. هذه الحرب الشاملة يجب أن تشمل كل حلقات العمل الإرهابى، تنظيما وتسليحا ودعماً سياسيا وغطاءً أيديولوجيًّا وإعلاميا.. فمن يحمل السلاح هو فقط الحلقة الأخيرة من سلسلة إجرامية تشمل من يموله ويُسلّحه، أو يوفر له ملاذا آمناً، أو منبرا إعلاميا وتبريرا فكريا، أو من يستخدمه كمخلب قط، لإنشاء مناطق نفوذ والتدخل فى الشؤون الداخلية لدولنا العربية.. ولا مجال لأن نستثنى أى حلقة من حلقات هذه السلسلة الإجرامية، فكلهم بدون استثناء شركاء فى الإرهاب، وكلهم مسؤولون عن الجرائم البشعة التى ترتكبها هذه التنظيمات الإرهابية.
وإننى إذ أعبر عن ارتياحى للقرار المطروح من قمتنا العربية، لتطوير المنظومة العربية الشاملة لمكافحة الإرهاب، فإننى ما زلت آمل أن يعود البعض ممن يصرون على الوقوف فى الجانب الخاطئ من التاريخ، إلى جادة الصواب، والتوقف نهائيا عن رعاية الإرهاب ودعمه، بشكل يتناقض كليا مع تعاليم الإسلام، وأواصر الأخوّة والعروبة، بل وقيم الإنسانية والحضارة.
أصحاب الجلالة والفخامة والسمو،
إن مصر تعرب عن قلقها البالغ نتيجة التصعيد العسكرى الراهن على الساحة السورية، لما ينطوى عليه من آثار على سلامة الشعب السورى الشقيق، ويُهدد ما تم التوصل إليه من تفاهمات حول تحديد مناطق خفض التوتر. وتؤكد مصر فى هذا الإطار رفضها القاطع لاستخدام أية أسلحة محرمة دوليا على الأراضى السورية، مطالبة بإجراء تحقيق دولى شفاف فى هذا الشأن وفقا للآليات والمرجعيات الدولية.
لقد آن الأوان أن نتحرك بشكل جدى لوضع حد لنزيف الدم السورى، الذى أزهق أرواح أكثر من نصف المليون مواطن، وأدى لتحويل الملايين إلى نازحين ولاجئين داخل بلادهم وفى الدول العربية والمجاورة، ولا يكفى هنا أن نقتصر فقط على تكرار التزامنا بمرجعيات الحل السياسى، وقرارات مجلس الأمن ذات الصلة، وإنما يجب أيضا أن نوجه رسالة واضحة ولا لبس فيها، بأن سوريا أرض عربية، ولا يجوز أن يتقرر مصيرها وتُعالج مُشكلاتها إلا وفقا لإرادة الشعب السورى.
لقد كان لجهود الدول العربية، وتحديدا للتعاون المصرى السعودى، الدور الأهم فى توحيد كل تنظيمات المعارضة السورية، وإننا نتوقع من الأمم المتحدة أن تتحرك بشكل سريع، وبالتنسيق مع الدول العربية، لبدء مسار لجنة وضع الدستور السورى، كمقدمة لاستئناف جولات المفاوضات.. ولن يكون مقبولا أن يتم تشكيل هذه اللجنة، أو استئناف المفاوضات، بناء على حسابات وتوازنات بين أطراف غير عربية، وإنما يجب أن يكون السوريون أنفسهم والعرب شركاء أساسيين فى جهود السلام فى سوريا، بوصفهم أصحاب المصلحة الحقيقية فى الحفاظ على وحدة سوريا وسلامتها الإقليمية.
ونفس الأمر يُمكن أن يقال عن ليبيا واليمن الشقيقتين.. إن الحفاظ على وحدة وسلامة وعروبة هذه الدول، وقطع الطريق على أية محاولة من التنظيمات الإرهابية، ورعاتها الإقليميين والدوليين، لتمزيق أوصال هذه الأوطان العربية، هى مسؤولية تقع علينا جميعا.. ولن نسمح بأن تظل هذه الدول الشقيقة، مسارح لصراعات دولية وإقليمية، تمزق شعوبها وتدمر مقدراتهم.
إن مصر مستمرة فى دعم كل جهد للحفاظ على وحدة ليبيا واستعادة مؤسسات الدولة فيها، ولعلكم جميعا تتابعون الجهود المصرية المستمرة لتوحيد المؤسسة العسكرية فى ليبيا، وخلق ضمانة أمنية تتأسس عليها عملية استعادة الدولة الوطنية فى ليبيا والقضاء على الإرهاب.
كما أن مصر ملتزمة بالعمل على استعادة الاستقرار، وتحقيق الحل السياسى العادل فى اليمن، الذى لا يُمكن أن يتأسس إلا على مبادئ احترام وحدة الدولة اليمنية وسيادتها، ورفض منطق الغَلَبَة، ومحاولة فريق سياسى فرض طموحاته التوسعية على عموم اليمنيين بالقوة، والاستقواء بقوى إقليمية وأجنبية.. فلا مستقبل فى اليمن إلا بالحل السياسى، ولن يكون الحل السياسى إلا يمنيًّا خالصا، لا مكان فيه لأطماع إقليمية أو لمنطق الاستقواء والغَلَبَة بين أبناء الشعب الواحد. إن مصر لن تقبل قيام عناصر يمنية بقصف الأراضى السعودية بالصواريخ الباليستية باعتباره تهديدا للأمن القومى العربى.
أصحاب الجلالة والفخامة والسمو،
إن التحدياتَ جسامٌ، ولكنى واثق من أن العزم الصادق، والجهد المُنَسَّق بين الدول العربية، كفيلٌ بمواجهتها.. إن مصر تُجدد عهدها معكم، بأن تكون فى القلب من كل جهد، يهدف لإعادة الحياة إلى عملنا العربى المشترك، ومواجهة الأطماع الإقليمية الخارجية فى منطقتنا، فالأمن القومى العربى كلٌ لا يتجزأ. وإن شعوبنا العربية تنتظر من هذه القمة الكثير، فلنكن أهلاً لتطلعاتها وآمالها.
وفقنا الله جميعا إلى ما فيه خير أمتنا العربية،
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته).