آراء أخرى

هل الاقتصاد العالمى تنتظره أزمة جديدة؟!

إذا أتيحت لك الفرصة وسألت جمهرة من الاقتصاديين حول رأيهم فى احتمالية حدوث أزمة مالية عالمية فى المستقبل القريب، سيجيبك أمثَلهم منهجية بأن العالم يعيش بالفعل أزمة اقتصادية ممتدة المفعول منذ سبعينيات القرن الماضى، وأن منحنى الاستقرار المالى العالمى يأخذ الاتجاه الهابط منذ أن تنكرت الولايات المتحدة الأمريكية لتعهدها الشهير بتحويل الدولار لذهب عند سعر صرف ثابت فى العام 1971. فمنطقهم هو أن جسد الاقتصاد العالمى مثله كمثل الرجل صاحب المرض المزمن، والذى لا يستطيع حيلة ولا يهتدى سبيلا غير التكيف مع هذا المرض. لكنه على الرغم من نجاحه بالتكيف لسنوات طويلة، فإنه لم يزل يتعرض لانتكاسات مرضية بين الحين والآخر. ومادام الاقتصاد العالمى يعيش عصر أزمته المستمرة، فإن السؤال حول احتمالية حدوث أزمة جديدة غير ذى معنى، ويجب استبداله بسؤال آخر حول كُنه الأزمات التى تمسك بخناقه، وعن مسببات حدوث انتكاسة جديدة فى سجله المرضى، وعن عمق هذه الانتكاسة حال حدوثها.
***
للوهلة الأولى، يترك مصطلح «أزمة» لدى القارئ انطباعا سلبيا عن واقع وتوجهات الأداء الاقتصادى. فعلام يشير هذا المصطلح فى الكتابات الاقتصادية؟ وهل صحيح أنه مصطلح يحمل قدرا كافيا من السلبية؟ ببساطة شديدة، إذا قيل إن دولة ما تعانى من أزمة، فهو تعبير لفظى عن حدوث انكسار حاد وغير متوقع فى معدل نمو متغير أو أكثر من متغيرات اقتصاد هذه الدولة. فعندما يحدث عجز كبير ومفاجئ فى ميزان مدفوعات الدولة، أو عندما تُضطر حكومتها لزيادة الإنفاق العام بمقادير تعلو كثيرا عن طاقة مواردها المالية، أو إذا أصيب جهازها المصرفى بعطب مفاجئ، حينها يقول الاقتصاديون بأن هذه الدولة تعانى من أزمة.
ومع أنه قد يخيل للقارئ أنه لا فرق بين الأزمة المالية وبين الأزمة الاقتصادية، إلا أنهما يختلفان لدرجة أن الأزمة الأولى جزء من الأزمة الثانية. ذلك لأن جسد أى اقتصاد يمكن تقسيمه إلى قسمين رئيسيين؛ الاقتصاد العينى (يسميه البعض الاقتصاد الحقيقى) والاقتصاد المالى. وقد يعانى أى اقتصاد من أزمة فى القطاعات العينية الزراعية والصناعية، ونقول أن أزمة زراعية أو صناعية ألمت به، لكن قطاعه المالى لم يتأثر كثيرا. أو قد يعانى اقتصاد آخر من أزمة فى قطاعاته المالية والنقدية، ونقول إن لديه أزمه مالية، لكن قطاعاته العينية بكامل عافيتها. أما عندما تدركه الأزمة الاقتصادية الكاملة، فيعنى أن جميع قطاعاته باتت معطلة، أو تعمل دون قدراتها الاقتصادية. وما يصح عن اقتصاد دولة واحدة، يصح كذلك عن الاقتصاد العالمى فى مجموعه.
ولعل التفرقة السابقة بين مفهومى الأزمة المالية والأزمة الاقتصادية كفيلة بأن تكشف لنا قناعا مهما من الأقنعة الموضوعة على فكر الأزمات الاقتصادية الدولية. فعندما يقال أن الدول المتقدمة تعرضت ــ أو يُتوقع أن تتعرض ــ لأزمة مالية، فيجب أن يعلم القارئ أن أصول اقتصادها لم تُصب بسوء، وأن غاية ما يحدث هناك هو مشكلة فى دوران عجلات قطار الاقتصاد؛ أما القطار نفسه فهو سليم معافى.
***
على كل حال، وقبل أن نتأمل فى توجهات المستقبل القريب للأزمات، فليأذن لنا القارئ أن نذهب فى عجاله سريعة للماضى البعيد؛ عندما كان النظام الرأسمالى العالمى تتشكل ملامحه الأولى فى القرن التاسع عشر. فمنذ فجر هذا النظام وهو يعانى من أزمات دورية ناتجة من معضله هيكلية فى آلية عمله. فالرأسمالى، بصفته مالك المصنع، تزيد أرباحه كثيرا عن مجموع أجور عمال هذا المصنع. وإذا كان عمال المصانع جميعهم هم من يفترض بهم شراء منتجات جميع المصانع، فإن أجورهم لن تكفى لشراء هذه المنتجات. وعندما تتكدس المنتجات فى مخازن المصانع، يجد النظام الرأسمالى نفسه أمام أزمة تصريف طارئة داخل الدولة. وإذا وسعنا زاوية النظر، لوجدنا أن جميع الدول التى اتبعت هذا النظام معرضة للأزمة نفسها. ولذلك، فلا مجال لأن تنجحــ فرادى أو جماعاتــ فى التصدى للأزمة. فكيف السبيل إلى الخروج منها؟!
قبل أن نشير للآلية التى اهتدى لها النظام الرأسمالى فى التغلب على أزماته الدورية، يحق لنا أن نقول بأننا أمام نظام رأسمالى عالمى مأزوم بطبيعته. لكنه كانــوما زالــ ناجحا فى التكيف مع أزماته. ففى غمار بحثه عن مخرج، وجد «اكسير» حياته فى تصريف إنتاجه الفائض فى الأسواق الخارجية، وتحديدا فى أسواق البلدان النامية. ولقد ظل هذا «الاكسير» سارى المفعول حتى نشبت حربان عالميتان قضت على هذه الفاعلية، لدرجة أنه شهد أعتى أزماته التاريخية فى الفترة ما بين هاتين الحربين، وحتى كادت هذه الأزمة أن تقضى عليه قضاء مبرما!
ولكيلا يطول بنا المقام فى التاريخ ــ على الرغم من أن التاريخ خير معلم لنا ــ فلقد ساهم توسع الدور الحكومى فى علاج جزء إضافى من أزمة الرأسمالية العالمية. فمن خلال اقتطاع الحكومة لحصة متزايدة من دخول أصحاب الشركات (الضرائب التصاعدية على الأرباح)، ثم استخدامها فى تدعيم القدرات الشرائية للعمال (نفقات الدعم والضمان الاجتماعى)، عولجت أزمة التصريف الدورى للإنتاج، وقلت فرص حدوث أزمات جديدة.
***
من الخبرة المكتسبة من الأزمة المالية التى عمت العالم فى العام 2008، يمكننا أن ننقل تحليلنا لمنحى جديد، لكنه لا يقل أهمية عن التحليل المتقدم. هذا المنحى يركز على نوعية السلع المطلوب تصريفها لعلاج أزمات النظام الرأسمالى الدورية، ويبحث فى التوقيتات الملائمة لهذا التصريف. فإذا كان من المنطقى أن يشهد قطاع الإنتاج العسكرى تنامى فى نصيبه من الناتج المحلى الإجمالى فى الدول المتقدمة قبل وأثناء الحروب والتوترات الجيوسياسية، فإن عجلات الإنتاج فى المصانع العسكرية لا تكف عن الدوران بعد انتهاء هذه الحروب والتوترات؛ بل قد تتسارع فى الدوران مع التقدم الذى تحرزه هذه الدول فى العلوم والتكنولوجيا. ولما كان الإنتاج العسكرى يخضع لقواعد الربحية التجارية فى الدول الرئيسية المنتجة له، وبسبب الطبيعة الخاصة للإنتاج العسكرى، ونتيجة لمحدودية قدرة السوق المحلى على استيعابه، فإن الحاجة لتصريف هذا الإنتاج تدفعهم لخلق سوق عالمى يستوعب هذا الإنتاج المتنامى. وعملية خلق سوق عالمى يحتاج إلى المنتجات العسكرية، تقتضى تعزيز التوترات الجيوسياسية خارج حدود الدول المنتجة له، أو حتى خوض حروب عسكرية مباشرة فى المناطق الملتهبة من العالم. ومن ذلك يمكننا الانتهاء للقول أنه بتضخم قطاع التسليح العسكرى، وبسيطرة منتجات هذا القطاع على شطر مهم من الناتج فى الدول المتقدمة، تعززت فرص تعرض النظام الرأسمالى العالمى لحدوث أزمات دورية. لكن هذا النظام تعلم الدرس جيدا، وبات يفتعل الأزمات الدولية ليستطيع تصدير ما تنتجه مصانع دوله من أسلحة.
إننا نستطيع أن نضيف سلعة جديدة للسلع المطلوب تصريفها خارجيا، حتى ينال الاقتصاد الرأسمالى العالمى حظه من الاستقرار المالى المؤقت. ولكننا فى هذه المرة أمام سلعة تأخذ شكل النقود. فبعدما تضخمت السيولة الدولية (العملات الأجنبية التى تتمتع بقبول دولى) فى الأسواق العالمية، وتفوقت هذه السيولة على حجم السلع والخدمات العالمية بأضعاف مضاعفة، بات تصديرها وإعادة تدويرها فى الأسواق الخارجية أمر لا مفر منه إلا الوقوع فى وهدة الأزمات المالية. لا عجب إذن، والسيولة الدولية على تضخمها هذا، أن تجد طوفانا من الأموال الساخنة تتصارع على كعكة عالمية محدودة النمو، وأن تشتعل المضاربات المالية فى جميع الأسواق الدولية.
والمتتبع لتواريخ الأزمات المالية التى ألمت بالمراكز الرأسمالية، يمكنه أن يرى خيط رفيع يربطها بالتوترات الجيوسياسية فى عالمنا المعاصر؛ فحدوث أزمة مالية ــ صغرت أم كبرت ــ يقتضى التصدى لها بالعلاج السريع. وكما علمنا، فإن العلاج الفعال يُرتَب تنازليا ــ حسب درجة أهمية وفاعلية كل بديل من بدائل العلاج ــ من فتح الأسواق أمام تصدير السلاح؛ إلى خلق القنوات المالية لتصدير الأموال الساخنة؛ ثم إلى، وأخيرا، فى التوسع فى الأنشطة الاعتيادية للتصريف الداخلى والتصدير الخارجى للسلع والخدمات.
إن القارئ مدعو الآن للتأمل فى نتائج التحليل السابق، ومدعو لأن يقارن بين الأحداث الدولية التى أعقبت أزمة العام 2008 وبين نشوب العديد من التوترات الجيوسياسية والحروب والتهديدات العسكرية الدولية، ثم يقارنها أيضا بارتفاع تدفقات الاستثمارات الأجنبية للدول النامية التى صاحبت وتلت تلك الأزمة، ويقارنها كذلك بالإلحاح الشديد فى فتح الأسواق العالمية أمام صادرات الدول التى وقعت فى براثن هذه الأزمة المالية. ومن خلال هذه المقارنات المهمة، يمكنه أن يرى الخيط الرفيع الذى لَفتُ انتباهه إليه سابقا. فحدوث الأزمات المالية فى الدول المتقدمة يعقبه نشوء أزمات غير مالية فى أصقاع العالم المختلفة.
***
على أن النتائج التى يخلص إليها التحليل السابق كافية لبيان حقيقة الأزمات المالية العالمية، وتجعلنا نرى الطبيعة الانتشارية لهذا النوع من الأزمات، كما تعطينا الفرصة للتفكر فى احتمالات حدوث انتكاسة مالية جديدة فى المستقبل القريب، ثم لنتفكر فى المستقبل البعيد للنظام الرأسمالى العالمى برمته.
وعلى الرغم من كثرة الكتابات التى تتوقع حدوث أزمة مالية عالمية قريبة، فإن التزام تحليلنا بالمنهجية العلمية يجعلنا نقول إن فرص حدوث هذه الأزمة ترتبط بثلاثة عوامل رئيسية؛ أولها إذا حدث تراخى فى الطلب فى سوق السلاح العالمى، والذى يحدث فقط إذا تراجعت حدة التوترات الجيوسياسية؛ وثانيها إذا زادت الحواجز والقيود على تدفقات الأموال الساخنة فى الأسواق العالمية، وأُوصدت الأبواب أمام أباطرة المال فى العالم؛ وثالثها إذا زادت نزعة الحماية بين أطراف التجارة العالمية الرئيسية، وبينها وبين باقى بلدان العالم. ولئن كان العامل الثالث هو أكثر العوامل الثلاثة حدوثا هذه الأيام (أبرز الأمثلة على ذلك هو الصراع التجارى الأمريكى ــ الصينى)، لكنه أقل العوامل فاعلية فى العلاج. وبما أن التوترات الجيوسياسية مرشحة للزيادة فى المستقبل القريب، وطالما لا توجد مؤشرات واضحة على نمو القيود على تدفقات رءوس الأموال بين الأسواق الدولية، فإننا لا نرى فى الأفق فرص جادة لحدوث انتكاسة مالية عالمية تصيب النظام الرأسمالى العالمى. لكننا، فى المقابل، نرى أن العالم يستحق نظاما أكثر عدالة وأكثر رحمة من هذا النظام الذى لا يعرف للعدالة والرحمة طريقا!

 

أستاذ الاقتصاد المساعد / محمد يوسف

زر الذهاب إلى الأعلى