آراء أخرى

أكرم القصاص يكتب..دروس ألمانية فى المناورة والاستقلال.. عصر ميركل

تظل ألمانيا وشعبها نموذجا لتجربة إنسانية وسياسية ملهمة،تقدم دروسا جادة فى البناء والتقدم والمزج بين الأفكار الاجتماعية والرأسمالية، وتجاوز التاريخ إلى المستقبل بشكل لافت، ففى ألمانيا حيث نشأت أهم الأفكار الاشتراكية تمثلت قيادة عاقلة للعالم الرأسمالى بشكل يختلف عن الليبرالية المتوحشة والعولمة الصادمة، و سواء استكملت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل مدتها حتى 2021 أو خرجت مبكرا فسوف تظل علامة من علامات السلطة والسياسة فى القرن الواحد والعشرين، وفى مرحلة تقلبات وتحديات واجهها الاتحاد الأوروبى والعالم،  ومثلت أنجيلا ميركل نموذجا مفارقا للقيادة والسياسة والمناورة الناجحة التى تحمى مصالح بلادها وتساهم فى تنميتها وتقدمها فى مرحلة تواجه أقرانها تحديات وتقلبات لافتة.
 
 
ميركل أستاذ الكيمياء الفيزيائية، التى عاشت أغلب حياتها فى ألمانيا الشرقية خلف سور برلين، وعملت خبيرة فى الكيمياء بكلية العلوم من 1978 إلى 1990، وتعرفت على السياسة بعد توحد ألمانيا وكان أستاذها ومرشدها المستشار الأسبق هيلموت كول، أول من عرض عليها أول منصب وزارى، تقلدت مع كول، المستشار التاريخى للبلاد، وزارة المرأة والشباب، ثم وزيرة للبيئة والسلامة النووية، ويعتبر العام 2000 هو الميلاد السياسى الحقيقى لميركل، ففيه تولت رئاسة الحزب الديمقراطى المسيحى ومن ثم أصبحت زعيمة لكل المنضوين تحته، ووقتها بدأت العمل على تكوين تحالف من الأحزاب المسيحية، حزبها الديمقراطى المسيحى وحزب الاتحاد الاجتماعى المسيحى، وحافظ التكتل على مركزه كأكبر تكتل فى البرلمان الألمانى منذ العام 2005.. وفازت على المستشار الاشتراكى الديمقراطى القوى جيرهارد شرودر، وانتصرت أيضا على اليسار ممثلا فى الحزب الاشتراكى الديمقراطى.  
 
وكان لميركل بصماتها الشخصية فى فن إدارة الصراعات فى عصر تحولات كبرى وصراعات عنيفة، صحيح أنها لم تكن أول سيدة تصعد للسلطة، لكنها أول مستشارة لألمانيا ، وتولت فى فترة صعبة وتقدمت بألمانيا لتصبح زعيمة للاتحاد الأوربى، فى زمن صعب، فضلا عن أن ألمانيا حققت فى عهدها نموا اقتصاديا حقيقيا، ونسبة بطالة هى الأدنى فى تاريخها، ولم يواجه الألمان ما واجهته الدول الأخرى من تحديات داخل وخارج الاتحاد الأوروبى، وكانت دائما قادرة على إدارة المناورات والسياسة على خيط مشدود. 
 
 أنجيلا ميركل التى تصنف كأقوى امرأة فى العالم، تفرض على حكومتها ونفسها وشركائها التقشف، وتحتفظ بحياتها ضمن الطبقة الوسطى، ترتدى ملابس بسيطة، تكرر ظهورها بنفس الموديل المحتشم من الجاكيت والبنطلون بألوان مختلفة، ويتكرر ظهورها بنفس الطاقم مرات خلال أعوام، تعيش بشقة عادية فى برلين، وتتسوق بنفسها من سوبر ماركت مخفض الأسعار.. هذا المظهر الذى لم تبد فيه متصنعة كان ضمانة لشعبيتها لدى الناخبين.
 
واتسمت ميركل ببرجماتية وقدرة على المناورة، عندما أصاب الضعف حزبها وارتفعت اتهامات مالية تجاه أستاذها هلموت كول أطاحت به سياسيا لتقود الحزب والائتلاف. ومن المفارقات أنها كررت الفوز بأربع فترات مثلما حقق هيلموت كول المستشار التاريخى، ثم إنها تعلمت من تجربته التركيز على السياسات المرنة المستقلة التى تضمن مصالح ألمانيا وتفيدها اقتصاديا وسياسيا.
 
  وبالرغم من براجماتيتها لم تخضع ميركل  لابتزاز اليمين المتطرف فيما يتعلق باللاجئين وفتح الأبواب لهم، وكان يمكنها أن تحتفظ بشعبيتها لو خضعت للضغوط وغيرت من سياستها تجاه اللاجئين، لكنها فضلت المغامرة بشعبيتها فى سبيل قضية إنسانية وأقنعت شركاءها الأوروبيين وليس فقط الألمان.  
 
ومع صعود القوميين المتطرفين أبدت ميركل اتجاها للانسحاب وعدم الترشح لرئاسة الحزب المسيحى، وسواء انسحبت قبل مدتها أم لا فسوف تظل إحدى علامات السياسة والسلطة، ومعها ألمانيا الدولة القادرة على صياغة علاقات سياسية واقتصادية مع العالم، وانتهاج سياسة مستقلة عن الولايات المتحدة فيما يتعلق بالتجارة والمنافسة، أو حتى القضايا الدولية المختلفة. واحتفظت ألمانيا معها ومن قبلها بصيغة اجتماعية تجمع بين الفكر الاشتراكى الإنسانى، مع اقتصاد للسوق تحكمه قواعد المنافسة ومواجهة الاحتكار، مع ربط نمو الاستثمار الخاص بالاقتصاد الكلى، ليحتل القطاع الخاص مساحة أكبر مع دور اجتماعى وأنظمة ضريبية متوازنة، ودعم واضح لبرامج التعليم والصحة والبنية الأساسية، الأمر الذى يجعل ألمانيا وميركل نموذجا يفترض أن تتعلم منه الدول الراغبة فى النمو، ومثلما كان هناك عصر هيلموت كول، فإنها تختم عصرها وتترك الساحة لدماء وتحديات جديدة.
زر الذهاب إلى الأعلى