“اجعل خططك غامضة كالليل، وعندما تتحرك انطلق كالعاصفة، وإذا تملكك اليأس يجب أن تقاتل” نصائح ذهبية من كتاب فن الحرب لفيلسوف الصين الشهير والقائد العسكري المخضرم صن تزو، ودائماً أحاول استدعاء كلماته وعباراته تعليقاً على مشهد الحرب الروسية الأوكرانية، التي بدأت تأخذ أبعاداً مختلفة ومنحنيات أكثر تعقيداً، بعد قرار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين باستدعاء جزئي لقوات الاحتياط للمشاركة في الحرب والاستعداد لمواجهات محتملة لم تعلن موسكو تفاصيلها حتى الآن.
قرار التعبئة الجزئية لثاني أكبر وأهم جيش في العالم بدأت من أمس الأربعاء، ومنتظر أن يكون لها دور مباشر في حماية الاستفتاء المنتظر على مناطق النزاع بين روسيا وأوكرانيا، سواء في دونباس الذى يضم جمهوريتي دونيتسيك ولوجانيسك، ثم مقاطعتي زاباروجيا وخرسون، ومنتظر أن يبدأ الاستفتاء من غد الجمعة، حتى 27 سبتمبر الجاري، وفى الغالب سيكون القرار النهائي لصالح ضم الـ 4 مناطق إلى الاتحاد الروسي.
البعض يقرأ قرار التعبئة الجزئية في الجيش الروسي باعتباره نصف هزيمة، ومحاولة للسيطرة على الأوضاع في أوكرانيا مرة أخرى من جانب الروس، بعد سلسلة التراجعات الأخيرة نتيجة الدعم الغربي غير المحدود لكييف، الذى شاركت فيه أمريكا وحدها بما يقدر بـ 15 مليار دولار في صورة أسلحة وقاذفات صواريخ ومعدات قتال متوسطة وطويلة المدى، وتغطيات رادارية شاسعة، وأقمار صناعية كاشفة لكامل الأراضي الروسية وما يتم من تحركات عسكرية، تُبنى عليها خطط الإعداد والتجهيز والمواجهة في الجيش الأوكراني.
في مسألة الاستدعاء الجزئي للاحتياطي الروسي أتصور أن هناك وجهة نظر مختلفة لدى موسكو، تعتمد على فكرة تطميع أوكرانيا نحو انتصارات وقتية وإشغالها في مناوشات ومعارك ممتدة، بينما يتم على الجانب الآخر تجهيز الاستفتاء لاقتطاع أهم مناطق أوكرانيا على الإطلاق استراتيجيا واقتصادياً، لتصبح تحت سيطرة الجيش الروسي، الذى حتماً سيغير خطته بصورة كاملة حال ضم ” لوجانيسك – دونيتسيك – زاباروجيا – خرسون ” إلى أراضيه، ولهذا السبب قرر بوتين استدعاء قوات الاحتياط التي لن تتمركز في الأراضي الأوكرانية فقط، بل على مختلف الحدود الروسية من أجل حرب محتملة أكثر دماراً وشراسة، خلال الأشهر المقبلة.
التقديرات العسكرية المعلنة في موقع جلوبال فاير باور، تشير إلى أن عدد قوات الجيش الروسي يصل إلى 1.350000 جندي، منهم 850 ألف جندي في الخدمة الفعلية بمختلف الرتب، بالإضافة إلى 250 ألف ضمن قوات الاحتياط، و250 ألف أخرى ضمن القوات شبه العسكرية أو المليشيات، كالتى تحارب في أوكرانيا حالياً وأغلبها عناصر شيشانية، لكن أتصور أن هذه التقديرات أقل بكثير من الحقيقة وأن موسكو تمتلك عدداً وعدة يزيد كثيراً عن هذه الأرقام، بالإضافة إلى الترسانة النووية التي لا يعرف أحد تفاصيلها حتى الآن، وتلوح بها دائماً كمصدر للقوة والردع.
القراءة المتأنية للأحداث تشير إلى أن روسيا تجهز صفوفها لمرحلة جديدة من الصراع ستكون الأعنف والأشرس منذ 7 أشهر، وستدفع بقوات وعناصر جديدة على الأرض لن يتمكن الجيش الأوكراني من مواجهتها أو القتال المتكافئ معها، وفور انفصال المدن التي ذكرناها في السطور السابقة عن الأراضي الأوكرانية سوف يسيطر عليها الجيش الروسي بصورة كاملة، ويتمركز فيها بوحدات مقيمة تمتلك خبرات قتالية عالية وقدرة على المواجهة والتعامل مع الأسلحة الغربية، التي تحصل عليها كييف من حلفائها الغربيين.
السيطرة على المدن الأوكرانية في الشرق والوسط والشمال وضمها إلى الاتحاد الروسي، مع العلم أنها تضم موانئ ومناطق حيوية واستراتيجية ومراكز صناعية وتجارية هامة، يجعل روسيا تتحكم بشكل مباشر في مستقبل أوكرانيا، التي غالباً ستتعرض لأزمات اقتصادية حادة نتيجة استنزاف مواردها والسيطرة عليها من جانب موسكو، بالإضافة إلى احتمالية ضعف الدعم الغربي لها خلال الفترة المقبلة، بعد وصول الحرب إلى الطريق المسدود، ومنطق لا حرب لا سلام، لذلك قراءة المشهد لن تتضح إلا بعد انتهاء إجراءات الاستفتاء المنتظر على الأقاليم والمدن الأوكرانية.