أقلام حرةعاجل

بقلم الكاتب | عز الدين شكري فشير ” كيف نُخرج مصر من أزماتها؟ “

إن كنت سعيدا بما نحن فيه ومتفائلا بالمستقبل القريب فلا تتعب نفسك فى قراءة هذا المقال. إن لم تكن فهذا المقال موجه لك، أيا كانت قناعاتك السياسية. وباختصار، لن تخرج مصر من أزماتها وتجد الطريق نحو النجاح إلا بمشاركة مكوناتها السياسية الرئيسية فى إطار يحمى الحد الأدنى من مصالح كل طرف، بحيث يطمئن لقواعد المنافسة السياسية ويلتزم بها، بما يخفض حدة الصراع السياسى ويسمح لمصر- مجتمعا ودولة- بالتركيز على التحديات الكبرى التى تواجهها.

الأجهزة الأمنية الحاكمة مهما اشترت من وسائل إعلام وبنت من مدارس لن تستطيع القضاء على حركة التحديث التى تجتاح المجتمع، بما تشمله من مطالبة بالحكم الرشيد واحترام حقوق المواطن والعدالة الاجتماعية. ومهما بطشت بالشباب وألقت بمعارضيها فى السجون لن تستطيع رأب الصدع الذى يفصل النظام عن ملايين المواطنين. ومهما قصفت بالطائرات وهدمت بالبلدوزرات لن تستطيع استئصال شأفة الإسلاميين والقضاء على الفكرة التى تلد أجيالا منهم منذ مائة عام. ومهما أوتيت من دعم مالى لن تستطيع مواجهة التحديات التى تطحن مجتمعا فقيرا موارده محدودة وبنيته التحتية والقانونية والإدارية سيئة، ويسوده عدم الاستقرار. ومهما أحكمت قبضتها على مؤسسات الدولة لن تستطيع رفع كفاءتها للحد الأدنى الذى تحتاجه الدولة كى تعيش.

جل ما تستطيع المؤسسات الأمنية الحاكمة فعله هو السيطرة على المجال العام. لكن هذه السيطرة لا تقضى على المطالب، بل تدفعها للتسرب خارج الإطار الرسمى، حيث تتراكم وتصبح مادة قابلة للاشتعال، ولا تحقق التنمية التى يحتاجها مجتمع المائة مليون، ولا تصلح مؤسسات الدولة المتعثرة إلى حد الفشل، ولا تقنع عشرات الملايين من المواطنين بقبول الوضع القائم إلى ما لا نهاية. كى تحقق أيا من هذا، تحتاج لمشاركة هؤلاء الذين تحاول القضاء عليهم.

كذلك لن يستطيع أنصار ثورة يناير تحقيق أى من أحلامهم دون مشاركة الأجهزة الأمنية والإسلاميين حتى عندما يمتلكون وسائل القوة السياسية التى يفتقدونها الآن. فإن وصل أحد ممثليهم لمنصب الرئاسة، سواء بثورة أو بانتخابات، فكيف سيسيطر على الأجهزة الأمنية (فما بالك بإصلاحها)؟ كيف سيحكم مؤسسات الدولة الإدارية والاقتصادية التى تسيطر عليها الأجهزة الأمنية منذ خمس وستين عاما؟ كيف سيصلح كل هذا الفشل ويقيم الدولة الحديثة التى يدعو إليها دون مشاركة هؤلاء المسيطرين على الفشل؟

البعض يحلم بموجة ثورية جديدة تطيح بالقديم كله ليُبنى مكانه بناء جديد خالص. طيب من سيقيم الأمن غداة الثورة؟ ميليشيات الإسلاميين العائدة للانتقام؟ كيف سيواجه الثوريون عنف الإسلاميين وإرهابهم بعد الانتقام من الأجهزة الأمنية؟ ألم نفهم بعد أن الأمن مثل الأوكسجين: إن اختفى ترك الناس كل شىء ليستعيدوه؟ ومن سيقود جموع الشعب حين تنفجر غضبا وفقرا؟ كيف سنحقق مطالبهم الفورية فى حين يستغرق التغيير الجذرى لمؤسسات الدولة والاقتصاد سنوات طوالاً؟ ألم نفهم بعد أن الشعب «المعلم والقائد» يفضل شظف العيش على جوع الأحلام التى لا يعرف أصحابها كيف يحققونها؟

والإخوة الإسلاميون، بعد سبعة عقود من الدعوة والعنف، وبعد تجربة 2012- 2013، هل يحتاجون لدليل آخر على ضلال أحلام السيطرة الكاملة فى مجتمع مركب وعالم متداخل؟

المشاركة لا تقتضى المحبة، ولا الاتفاق فى الرؤى، ولا اختفاء التنافس، بل تستند إلى إطار ينظم المنافسة السياسية ويضع لها حدودا كى لا تنقلب لحرب تفشل جهود الأطراف كلها وتحول دون تقدم الدولة والمجتمع. المشاركة التى أقصدها تأتى نتيجة اطمئنان القوى الثلاث الرئيسية لوجود إطار سياسى ومؤسسى يحقق التنمية، والأمن، والانتقال الديمقراطى، بالتوازى، فى مدى زمنى مقبول للجميع- غالبا ثلاث أو أربع فترات رئاسية قادمة.

ما منع تحقيق ذلك حتى الآن ليس غياب توازن للقوى، فتوازن القوى وحده لا يدفع الأطراف لقبول المشاركة (انظر اليمن وسوريا). كما مرت بنا فترات من توازن القوى بين 2011 و2013، لكن ذلك لم يمنع كل طرف من محاولة فرض رؤيته وحده وإقصاء الآخرين. المشكلة ليست فى توازن القوى بقدر ما هى فى عقليتنا، فى اعتقاد كل طرف بإمكانية القضاء على خصومه إذا امتلك القوة (فى حين أنه يحتاج مشاركة خصومه حتى وهم ضعفاء).

ومن ثم لن يتجاوب مع هذا الطرح أى من القوى الثلاث. سيكتب عملاء الأمن وميليشياته أن هذه محاولة مستترة للمصالحة مع الإخوان أو هدم مؤسسات الدولة أو للعودة لبطولة الشاشات والفضائيات. وسيكتب ثوريون متحمسون أن هذه دعوة إصلاحية منبطحة مثل الموافقة على دستور 2014 الذى يمنح الجيش وضعا استثنائيا. وسيقول الإسلاميون إنها صورة مألوفة من التصاق الانقلابيين مدعى الليبرالية بالعسكر.

سيمضى كلٌّ فى غيه، حتى تنهك الأطراف كلها وتدرك استحالة القضاء على خصومها، وعندها فقط قد يقبلون بالمشاركة، لكن ستكون أرواحنا طلعت أثناء رحلتهم الطويلة لفهم هذه البديهيات

زر الذهاب إلى الأعلى