نشرت صحيفة المصري اليوم مقالاً للكاتب صلاح عيسي تحت عنوان : ( لمصر.. لا للبرادعى ) ، وفيما يلى أبرز ما تضمنه :
لم أجد – على امتداد السنوات الثلاث الماضية – مبرراً معقولاً أو تفسيراً مقنعاً لهذه الحالة من التشنج العصبى التى تنتاب عدداً محدوداً من مقدمى البرامج على شاشات بعض الفضائيات المصرية، كلما بث د. محمد البرادعى تغريدة إلكترونية، تعليقاً على بعض ما يجرى فى مصر.. فإذا بهم يملأون الشاشات صراخاً وضجيجاً، إيذاناً بإعلان الحرب الإلكترونية عليه، ويدعون المشاهدين للمشاركة فيها بتغريدات وهاشتاجات وبوستات واتصالات هاتفية ومقاطع فيديو، وغيرها من أسلحة الدمار الشامل الشائعة فيما يسمى حروب الجيل الرابع ، ومع أن تغريدات الرجل لا تبث إلا مرة كل عدة شهور، ولا تتجاوز – عادة – إلا عدداً محدوداً من الكلمات، تصوغ أفكاراً عامة لا تخلو من سذاجة، لا تتناول شخصاً بذاته أو بلداً بعينه، وتنتمى فى الغالب إلى ما يسمى «أدب التلسين»، إلا أن المبالغة الهستيرية فى الرد عليه، عقب كل تويتة باسم الدفاع عن الأمن القومى المصرى، وعلى استقرار النظام القائم، تعطى له – ولأمثاله – الذريعة للادعاء بأنه لايزال عنصراً فاعلاً ومؤثراً فى مساحة واسعة من الجماهير المصرية، وأن النظام الحاكم يصاب بحالة من الرعب من كل كلمة يقولها، أو كل تويتة يبثها، وإلا ما اندفع الإعلاميون، الذين يزعمون أنهم ينطقون باسمه، للنفخ فى نفير الحرب، وحشد كل أسلحة الجيل الرابع، استعداداً لمواجهة جيش البرادعى الذى وصل إلى حدود مصر.
وهكذا ما كاد المارشال الدكتور محمد البرادعى يعلن فى الأسبوع الماضى، عبر الحلقة الأولى من سلسلة لقاءات تليفزيونية، أجرتها معه قناة العربى اللندنية، التى تمولها بسخاء الشقيقة الكبرى قطر، أنه قرر أن يعود إلى العمل السياسى الذى اعتزله خلال السنوات الثلاث الماضية، حتى غلا الدم فى عروق مقدمى هذا النوع البرادعاوى من البرامج، فقرروا أن يردوا على المسلسل القطرى بمسلسل مصرى تذاع حلقاته أسبوعياً، وبدلاً من أن يرد صناع هذا المسلسل على ما قاله البرادعى، إذا كان فيه ما يستحق الرد، اختاروا أن يردوا على طريقة مسلسل «رأفت الهجان» وأن يثبتوا أن فى السويداء إعلاميين، يعرفون تقاليد مهنتهم وآدابها والقوانين التى تحكمها، بأن يبثوا مجموعة مكالمات هاتفية شخصية، جرت بينه وبين آخرين منهم شقيقه وأنصار له من شباب الثورة… إلخ، يعود تاريخها إلى الأسابيع الأولى التى أعقبت عودة البرادعى الظفرة من الخارج لكى يشارك فى قطف بعض ثمار ثورة يناير.
الحقيقة السياسية الموضوعية الوحيدة، التى كان ينبغى أن يواجه بها البرادعى هى أنه لم يعد له مكان فى الساحة السياسية المصرية منذ اختار أن يستقيل من موقعه كنائب لرئيس الجمهورية، عقب فض اعتصامى رابعة والنهضة، وتخلى بذلك عن الشعب المصرى الذى ألح على اتخاذ هذا الإجراء، فى أكثر الأوقات التى مرت بها ثورة 30 يونيو حرجاً، وتخلى عنه دراويشه الذين احتشدوا حوله عند عودته وشبهوها بعودة سعد زغلول من منفاه عام 1921، بعد أن اكتشفوا عيوبه الكثيرة، ومنها عدم ثقته بالآخرين، وتعاليه عليهم، وعدم معرفته بالأوضاع الداخلية لمصر التى غاب عنها أربعين عاماً، وتشوش رؤاه السياسية، بل تخلى عنه الذين استقال تضامناً معهم، فأدرجه الإخوان فى قائمة من يسمونهم «الانقلابيين» ورفضوا منذ شهور تبريره موقفه من فض الاعتصامين، وطالبوه باعتذار رسمى وإعلان التوبة عن مشاركته فى قيادة جبهة الإنقاذ.
شىء من ذلك كان يكفى ويزيد، بدلاً من هذه الحماقة التى رفعت سلاح الدببة إلى إذاعة تسجيلات لاتصالات هاتفية لا تنطوى إلا على مشاورات سياسية كانت تدور آنذاك داخل كل فصيل من الفصائل السياسية، وبين كل فصيل والآخرين، حول سيناريو المستقبل، ولا جديد فيها سوى الآراء السلبية التى أبداها البرادعى فى أشخاص حلقاته، وهى تعكس طبيعته الشكاكة التى لا تثق بالآخرين، ولا فائدة من إذاعتها سوى ظن الذين فعلوا ذلك أنها سوف توقع بينه وبينهم، وتحول بينهم وبين التعاون معه، تطبيقاً للمنهج الذى تتبعه «مدرسة كيد النسا الإعلامية» وهو كيد فات أوانه، لأن الرجل فقد ثقة الجميع، ولم يعد أحد على استعداد للتعاون معه.
أسوأ ما تثيره هذه الحملة الهوجاء من قضايا عامة، هو ثلاثة تداعيات تسىء كلها لمصر وللنظام القائم، ولا يستفيد منها سوى البرادعى وأمثاله
الأول: هو إعلان بعض أعضاء مجلس النواب عن جمع توقيعات من أعضاء المجلس، لتقديم مشروع قانون بتعديل قانون الجنسية، بحيث يعطى المجلس حق سحب الجنسية من البرادعى، وهو حق يقتصر – فى القانون القائم – على السلطة التنفيذية، لممارسته تحت رقابة القضاء، وهو أمر لو حدث فسوف يكون مؤشراً جديداً على أن ورشة ترزية القوانين فى مجلس نواب ثورة 30 يونيو قد استأنفت عملها بنشاط يفوق أنشطة الورش فى العهود البائدة، ويضيف إلى إنجازاتها صدور قانون باسم «قانون البرادعى».
الثانى: هو شيوع الاتهام بالتجسس والخيانة الوطنية ليشمل – فضلاً عن البرادعى – كل من شارك أو أيد ثورة 25 يناير، مع أن التجسس تهمة يحدد القانون الأفعال الآثمة توجه لمن يرتكبها، وهى تتعلق بإمداد الدول الأجنبية بأسرار تتعلق بخطط القوات المسلحة وتشكيلاتها وأسلحتها وتحركاتها، والنيابة العامة، أو العسكرية، هى صاحبة الحق فى توجيه التهمة، والقضاء هو صاحب الحق فى إدانة أو تبرئة من يوجه إليه الاتهام بارتكابها.. ولا يجوز لأحد أن ينتزع لنفسه حق توجيهها لمن يختلف معه فى الرأى.
الثالث: إن مصدر ما يذاع من تسجيلات لايزال مجهولاً حتى الآن، والذين يذيعونها يتحصنون بحقهم – كإعلاميين – فى الاحتفاظ بسر المهنة، وبصرف النظر عن أن أدبيات المهنة، التى تحتفظ لهم بهذا الحق، تلزمهم – كذلك – بعدم انتهاك الحق فى الخصوصية، فإن الذين يعادون النظام القائم يستغلون إذاعتها، لتأكيد زعمهم بأن الذين قاموا ويقومون بها، ويسلمونها إلى من يذيعونها، هم من رجال السلطة العامة بالمخالفة للدستور والقانون، الذى يحظر عليهم ذلك إلا بإذن من القضاء، وفى صدر تحقيق يجرى فى جريمة قامت أدلة جدية على ارتكاب أشخاص محددين لها، وهو ما يستدلون به على صحة ادعائهم بأن مصر تخضع الآن لحكم بوليسى ينتهك الدستور والقانون وحقوق الإنسان .. وصدق اللى قال: «يا نحلة لا تقرصينى.. ولا عايز عسلك!».