من يوثق الأحداث ويكتب التاريخ؟!.. للكاتب : حسام بدراوي
قال الشاب المثقف: من أين يأتى توثيق الحدث الذى يكتبه التاريخ.
قلت: أحيانا نفس الحدث يحكيه من عايشوه من جوانب مختلفة وقد يختلفون اختلافا بيًنا فى روايته.
قال: اعطنا أمثله.
قلت: تاريخ أحمد عرابى مثلا، حقيقه نحب روايتها.. هل هو بطل أم فلاح قاد الجيش إلى هزيمه أمام الإنجليز!
ثوره ١٩ وزعماؤها أبطال أم أشرار ولماذا بعد ثوره ٥٢ تغير التاريخ، وانقلب من كانوا أبطالا إلى أشرار وعادوا أبطالا بتغير المناخ السياسى.
الملك فاروق، وطنى أم خائن، وهل يُلقى عليه كل اللوم فى الأخطاء مع أنه كان غير متوافق مع قوة الاحتلال أم أن ثورة يوليو ظلمته.
ثورة يوليو، كانت حركة فى الجيش أم ثورة شعبية..
الضباط الأحرار كان عدد منهم من الإخوان وعدد آخر من الوزراء المهمين بعد الثورة كانوا إخوان أيضا، ومدى تأثير هذا على مسار التاريخ..
موقف الشاذلى فى حرب أكتوبر مثلا والقصة تروى بطريقتين متضادتين.. والذى يروى إما هدفه أن ينقص دور السادات أو دور الشاذلى. لابد أن هناك حقيقة موثقة عن الخلاف.
مقتل السادات مثلا آخر، كيف يحكيه التاريخ، لقد حسبت عدد الثوانى من ساعة نزول القاتل من السيارة إلى ان وصل إلى السادات هل من الممكن ألا يكون هناك رد فعل من الحراسة نهائيا فى كل هذه المدة وهل كان هناك مؤامرة أكبر.
أعلم من التفاصيل المثير الذى لم يذكره التاريخ المكتوب، فوزير الداخلية بعد الحادث كُرِم بوسام من الدولة ورئيس مباحث أمن الدولة تم ترشيحه سفيرا فى ألمانيا وكأنها مكافآت لمسؤولين بعد حادث كان من الممكن تجنبه.
من المسؤول عن هزيمه ٦٧، التى هى أصل كل ما يعانى منه الشرق الأوسط إلى هذه اللحظة، هل هو عبدالناصر الذى أعلن مسؤوليته بنفسه أم المشير عامر الذى قيل إنه انتحر.
ألم يكن الاثنان شيئا واحدا!.
اعترف القائد بمسؤوليته بنفسه وقررنا نحن إعفاءه من المسؤولية.
أليس ذلك نظام انتهى بمأساة نعانى منها إلى الآن؟!.
ولا ينقص ذلك من أفعال أخرى قبلها قد نراها عظيمة لهذا النظام حسب معايير وقتها.
التاريخ يكتب اليوم وكأن هذا النظام لم يُلق مصر فى غياهب مأساة نعانى من آثارِها إلى هذه اللحظة.
أين الحقيقة الموثقة فى أحداث كثيرة مرت علينا؟
كيف سيحكى التاريخ انتهاء حكم مبارك. هل رأى أحد خطاب تنازله للمجلس العسكرى، هل سمعه أحد يعلن ذلك. هل تنازل فعلا أم أُجبِر على التنازل؟!.
ما علاقة ٢٥ يناير و٣٠ يونيو ببعض، وهما أحداث أطرافها مختلفة وأعداؤها مختلفة ونتائجها مختلفة. لماذا يضعهما الدستور الذى يعتبر الوثيقة الأهم وكأنهما حدث متصل.
فى ٣٠ يونيو كان هناك استدعاء من الشعب للجيش للتخلص من الإخوان بوضوح.
وفى الأولى كان هناك ركوب للإخوان على حركه بدأت بشباب وانتهت بركوب الإخوان على الحكم.
هل سيذكر التاريخ حقيقه أن ٣٠ يونيو كانت ثورة على ٢٥ يناير أم هما شىء واحد؟!.
لقد نشرت الحكومة الأمريكية أخيرا، حسب القانون، نصوص خطابات بين الملوك العرب ورؤساء أمريكا قببل حرب ٦٧، يقشعر لها البدن فيمن كنا نظنهم أبطالاً.
لقد بدأت أصدق مما يروى عن يناير التى عايشتها من الداخل أن كل أحداث التاريخ ملعوب فيها بنكهة من يكتبها ويلونها.
التاريخ للأسف يكتبه فقط المنتصرون، فلو وصفت الغابة بعيون الأسد ستجدها مختلفة عن نفس الغابة بعيون الغزال، أو الطير أو باقى الحيوانات، الآكل منها والمأكول.
هل نكتب التاريخ لنتعلم ولا نكرر الأخطاء، أم لخلق وعى تراكمى للإنسان ليرتقى بنفسه فى المستقبل.
التاريخ يعيد نفسه فى أحيان كثيرة وكأننا لا نتعلم، ومن يكتبون التاريخ للارتقاء بالحياة، والنفس البشرية قليلون جدا.
قالت الشابة الجريئة: لقد عشت أنت نفسك أحداثا تاريخية ولم تحك إلا قشورا منها، لماذا لا تضع حكايتك أمام التاريخ، خاصة وقد حظيت باحترام الأغلبية، وأنك لم تستفد من الأحداث، ولم تتلوث ولم تتهم. وقد تكون يا دكتور من القلائل جدا الذين خرجوا من هذه الأحداث سليما معافا.
قلت:
لو حكيت لكم تفاصيل أحداث رأيتها وعايشتها فى الستة أيام التى قضيتها داخل القصر الجمهورى فى فبراير ٢٠١١ لما صدقتكم أنفسكم كيف كانت تدار أمور كثيرة أثرت على مستقبل مصر. لكن كل شىء له وقته.
وكما قالت لى بعدها رئيسة البرلمان البريطانى، بارونه دى سوزا، بعد يناير إن وجودى فى تلك اللحظة كان لا يلائم الخطة، والتعبير كان you were an aberration in the process وإننى كنت (حسب كلامها) على وشك إفساد الأمر تماما لأننى حاربت لانتقال السلطة فى إطار الدستور، وكنت أظن أن ذلك سيمنع الفوضى، التى كانت إحدى النتائج المطلوبة بذاتها ليناير كما قالت لى. (الفوضى الخلاقة!!!).
قال الشاب الأول: ولكن هل سجلت مذكراتك عن هذه الأيام لتنشرها عندما تحس أن الوقت مناسب؟
قلت: إننى رجل يفهم الحاضر والتاريخ، ويؤمن بالتوثيق والمراجع، ولقد أشهدت على الأحداث أثناء وقوعها ثلاثة مثقفين، من ثلاث مدارس مختلفة، كانوا يتمتعون بثقتى، وقتها، حتى يكون للأحداث مرايا، يمكنها الرواية مثلى.
قال الشاب، ومن هم؟
قلت: الأستاذ صلاح منتصر، والأستاذ إبراهيم عيسى، والدكتور عمرو عبدالسميع. وكنت أتشاور مع المرحوم رفعت السعيد وهو يقع سياسيا فى جانب مختلف عنى ولكنه يحظى بثقتى واحترامى..
لقد سجلت رأيى ووثقت مشاعرى وفكرى فى كل يوم مر على، لأننى أعى أن ما لم يوثق، لم يوجد. كذلك أعى أن رواية الحدث بعد زمن يتأثر بمتغيرات حدثت بعده، وبحقائق لم تكن موجودة أثناءه. ولعل حقيقة اللحظه تضىء لمن سيقرأ التاريخ مستقبلا ظروف مسارات الأحداث وقتها.
هذا لا يعنى نشر ما لدى الآن فقد احتفظت بما لا أستطيع البوح به لوقت قد يأتى فى يوم من الأيام.
ولكن سيبقى فى التاريخ ما يجب أن يُروى، من خلال توثيق ما لم يره أهل مصر وقت معايشتها.
قال شاب ذكى: اعطنا ولو مثل واحد عن توثيقك لحدث ما.
ابتسمت وتذكرت الكثير، وقلت ربما فى وقتٍ فيه مساحة أكبر من الحرية، وربما عندما تكتمل الصورة لدىّ ممن سجلوا نفس الأحداث من منظورهم وقتها.
«لا توجد حقيقة مطلقة حتى لنفس الحدث طالما يكتب عنه أكثر من واحد».