بطل من أبطال الإسلام، ظهر في القرن السادس الهجري (الثاني عشر الميلادي)، استطاع أن يوحد الأمة ويجمع شمل مصر والشام والعراق في يوم من أعظم أيام الإسلام، وقد بهر هذا البطل أعداءه قبل أنصاره بسماحته وأخلاقه الكريمة، ولا يزال التاريخ يشهد له بذلك، وكانت سماحته سماحة القوي المنتصر، لا سماحة الضعيف المغلوب، فقد كان فارسًا نبيلاً وبطلاً شهمًا وقائدًا إنسانًا، التزم بأخلاق الإسلام وشريعته السمحة التي تدعو إلى العفو والإحسان. مولده في بيت إمارة: ولد صلاح الدين الأيوبي في قلعة (تكريت) بالعراق سنة (532ﻫ, 1138م)، وفي الليلة التي ولد فيها غادرت أسرته (تكريت) إلى (الموصل)، وبعد عام انتقل إلى مدينة (بعلبك)، حيث عُيِّن أبوه حاكمًا عليها، وفي هذه المدينة التي تقع الآن في لبنان عاش صلاح الدين الأيوبي طفولته وتلقى تعليمه بها، فحفظ القرآن ودرس الحديث والفقه واللغة والتاريخ، وتعلم فنون الفروسية والقتال، وبعد أن صار شابًّا سافر إلى (حلب) والتحق بعمه (أسد الدين شيركوه) وكان بطلاً ماهرًا، ومن رجال (نور الدين محمود)، سلطان (حلب، ودمشق). صلاح الدين وزيرًا: وفي أثناء هذه الفترة كانت الدولة الفاطمية في مصر تمر بلحظات ضعف شديد، في ظل الخليفة (العاضد) الذي لم يكن يسيطر تمامًا على البلاد، وشهدت صراعًا بين اثنين من كبار أمرائها هما (شاور) و(ضرغام) على منصب الوزارة، ولم يستطع أحدهما أن ينتصر على الآخر، فلجأ كل منهما إلى الاستعانة بقوى خارجية تساعده في تحقيق هدفه، فاستعان (ضرغام) بالصليبيين الذين كانوا يحتلون ساحل الشام، ويستولون على بيت المقدس، واستعان (شاو) بنور الدين محمود، وكان يقود حركة الجهاد ويقاوم الصليبيين.. أرسل (نور الدين محمود) إلى مصر (أسد الدين شيركوه) على رأس حملة عسكرية، وبصحبته ابن أخيه (صلاح الدين) الذي كان عمره آنذاك سبعة وعشرين عامًا، واستطاعت هذه الحملة بعد عدة محاولات سنة (564ﻫ، 1168م) أن تسيطر على مصر، بعدها تولى (أسد الدين شيركوه) -قائد الحملة- منصب الوزارة للعاضد -آخر خلفاء الدولة الفاطمية- ثم لم يلبث أن تُوفي (شيركوه) بعد شهرين، فخلفه في الوزارة ابن أخيه صلاح الدين. مصر تعود إلى أحضان الخلافة العباسية: كانت مصر آنذاك تحت حكم الدولة الفاطمية التي تدين بالمذهب الإسماعيلي الضال، وفي الوقت نفسه كان صلاح الدين من أهل السنة ويدين بالولاء لنور الدين محمود، سلطان حلب التابع لدولة الخلافة العباسية السنية، وكان على صلاح الدين أن يقضي على الدولة الفاطمية التي كانت تقترب من النهاية، ويعود بمصر إلى أحضان الخلافة العباسية، وفضّل صلاح الدين الوسائل السلمية، فقام بعزل القضاة الشيعة، وعيَّن مكانهم قضاة من أهل السنة، وبدأ في إنشاء سلسلة من المدارس التي تدرس مذاهب الفقه الحنفي والشافعي والمالكي، وبعد ثلاث سنوات كانت الأجواء مهيأة للتغيير بعد أن ساد مذهب أهل السنة. صلاح الدين والوحدة الإسلامية: كان صلاح الدين يحزن للوجود الصليبي في بلاد الشام، ويبكي ألمًا لأن مدينة القدس لا تزال محتلة، ولكن كيف السبيل إلى إخراج هؤلاء المحتلّين؟ كان صلاح الدين يعرف الإجابة التي تتلخص في عبارة واحدة هي: “الوحدة الإسلامية”، وقد بدأ صلاح الدين حكمه بالعدل بين الناس, وبإعداد الجند وتدريبهم أحسن تدريب, وبث فيهم روح الجهاد والثقة في نصر الله لتحقيق حلم الوحدة الإسلامية، وكانت البداية أن استنجدت به مدينة (دمشق)، فتحرك إليها، وتمكن من السيطرة عليها وضمها إلى (مصر) كما ضم (حماة) و(بعلبك) و(حلب)، وهذه الوحدة الإسلامية استغرقت من صلاح الدين الأيوبي أكثر من عشر سنوات من الجهد الشاق والعمل الجاد من سنة (570ﻫ، 1174م) حتى سنة (582ﻫـ، 1186م)، وفي أثناء ذلك لم يدخل في حروب مع الصليبيين حتى تكتمل خطته في الإعداد لمحاربتهم. من (حطين) إلى فتح بيت المقدس: بعد أن أقام صلاح الدين دولة قوية واطمأن إلى وحدتها وتمسكها بكتاب الله وسنته، انتقل إلى الخطوة الأخرى وهى قتال الصليبيين وطردهم من البلاد، وبدأ في سلسلة من المعارك انتصر فيها، ثم حقق النصر العظيم على الصليبيين في معركة (حطين) سنة (583ﻫـ، 1187م)، خسر فيها العدو زهرة شباب جنوده، ووقع في الأسر ملك القدس وكبار قادة الصيلبيين، وترتب على هذا النصر العظيم أن سقطت المدن والقلاع التي أقامها الصليبيون في يد صلاح الدين، مثل (طبرية، وعكا، وقيسيارية، ونابلس، ويافا، وبيروت). وأصبحت الطريق ممهدة لأن يفتح (القدس) التي ظلت تحت أيدي الصليبيين لمدة تزيد على تسعين عامًا، فتقدم صلاح الدين إلى مدينة القدس، وحاصرها حصارًا شديدًا حتى استسلمت وطلب حكامها الصلح، ودخل صلاح الدين القدس في مشهد عظيم، وفي يوم من أعظم أيام الإسلام، وفرح المسلمون في كل مكان بهذا النصر العظيم الذي أعاد لهم بيت المقدس, أولى القبلتين، وثالث الحرمين الشريفين،
ومسرى نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- ليلة الإسراء والمعراج، وكان هذا النصر العظيم ببيت المقدس في (27 من رجب 583 ﻫـ، 2 من أكتوبر 1187م). عفو صلاح الدين عن الصليبيين وسماحه لهم بالمغادرة: وتجلت سماحة صلاح الدين في دخوله مدينة القدس، فلم يثأر للمذابح التي ارتكبها الصليبيون عندما احتلوا المدينة، ولكنه سمح لكل صليبي أن يفتدي نفسه، كما أعفى أكثر من ألفين من الأسرى من دفع الفدية، لأنهم لم يكن معهم مال ليفتدوا به أنفسهم، كما أطلق سراح كل شيخ وامرأة عجوز، ومنح الأرامل واليتامى والمحتاجين أموالا كلُّ حسب حاجته. أوربا تدعو للثأر والانتقام: ارتجت أوربا لاسترداد المسلمين لمدينتهم المقدسة، وتعالت الصيحات تدعو للثأر والانتقام من المسلمين، فأرسلت حملة من أقوى الحملات الصليبية وأكثرها عددًا وأعظمها سلاحًا، وتكونت هذه الحملة من ثلاثة جيوش: ألمانية وفرنسية وإنجليزية، نجح جيشان منها في الوصول إلى مواقع الأحداث، لكن ملك ألمانيا غرق هو وجيشه في أثناء عبوره أحد الأنهار بآسيا الصغرى، واستطاع الجيش الفرنسي بقيادة (فيليب أغسطس) من أخذ مدينة (عكا) من المسلمين، واستولى الجيش الإنجليزي بقيادة (ريتشارد قلب الأسد) على بعض المدن الساحلية من (صور) إلى (حيفا)، وتصدى صلاح الدين لهؤلاء، وصمد صمودًا عظيمًا أمام جيوش الصلبيين التي كانت تهدف إلى احتلال بيت المقدس، مما اضطر ريتشارد قلب الأسد إلى طلب الصلح مع صلاح الدين والرجوع إلى بلاده، ثم لحق به ملك فرنسا. صلاح الدين.. من دعاة الحضارة والإصلاح: كانصلاح الدين سياسيًّا قديرًا ومن دعاة الحضارة والإصلاح،
فاهتم بالمؤسسات الاجتماعية التي تساعد الناس وتخفف عنهم عناء الحياة، وتعهد بالإنفاق على الفقراء والغرباء الذين يلجؤون للمساجد للعيش فيها، وجعل من مسجد (أحمد بن طولون) في القاهرة مأوى للغرباء الذين يأتون إلى مصر من بلاد المغرب. ومن أشهر أعماله التي أقامها في القاهرة قلعة الجبل، لتكون مقرًّا لحكومته وحصنًا منيعًا يمكّنه من الدفاع عن القاهرة، كما أحاط (الفسطاط، والعسكر، والقاهرة) بسور طوله (15كم) وعرضه ثلاثة أمتار، وتتخلله الأبراج، ولا تزال أجزاء منه قائمة حتى اليوم في جهات متفرقة. وفاة صلاح الدين: وفي أثناء مفاوضات صلح (الرملة) التي جرت بين المسلمين والصليبيين، مرض السلطان صلاح الدين ولزم فراشه، ثم توفي في (27 من صفر 589ﻫـ، 4 من مارس 1193م)، ولما توفى لم يترك مالاً ولا عقارًا، ولم يوجد في خزانته سوى دينار واحد وسبعة وأربعين درهمًا، فكان ذلك دليلاً على زهده وطهارة يده. شخصية صلاح الدين: جمع صلاح الدين في شخصيته أخلاق الفارس النبيل، ومواهب رجل الدولة، فهو شجاع لا يهاب أعداءه، لكنه في الوقت نفسه يستعد لهم أحسن استعداد، لذلك لم يدخل معاركه ضد الصليبيين قبل الإعداد لهم، وهو يدرك أن النصر لا يأتي إلا مع الاتحاد ووحدة الصف، وأن عدوه لم يتفوق إلا بسبب تفرق المسلمين، لذلك عمل على جمع شمل مصر والشام والعراق تحت قيادته، واشتهر بسماحته وحبه للسلام حتى صار مضرب الأمثال، فعامل الصليبيين بعد استسلام مدينة بيت المقدس معاملة طيبة، وقَبِل الفداء من أسراهم، وأطلق سراح نسائهم وأطفالهم. صلاح الدين في سطور : – ولد في قلعة (تكريت) بالعراق سنة (532ﻫـ، 1138م). – نشأ وتعلم في مدينة (بعلبك) اللبنانية. – عاد إلى (حلب) بعد أن صار شابًّا والتحق بخدمة عمه (أسد الدين شيركوه). – خرج مع عمه لاسترداد مصر، وحمايتها من الوقوع في أيدى الصليبيين. – تولى الوزارة في مصر، وعلى يديه سقطت الدولة الفاطمية. – عمل صلاح الدين أكثر من عشر سنوات متصلة من (570 ﻫـ، إلى 582 ﻫ) من أجل الإعداد لمواجهة الوجود الصليبي. – دخل في معارك مع الصليبيين وتوج انتصاراته في (حطين) واسترد بيت المقدس. – تصدى للحملة الصليبية التي قدمت من أوربا لاستعادة بيت المقدس. – عقد مع تلك الحملة صلحًا اشتهر بصلح الرملة. – قام بإنجازات حضارية، مثل: إنشاء المساجد والمدارس وبناء القلاع، ومن أشهرها قلعة (الجبل) التي أقامها بالقاهرة. – تُوفي صلاح الدين بعد حياة حافلة بالجهاد في (27 من صفر 829 ﻫـ، 4 من مارس 1193م).