عش الطيور… حساء الأباطرة لقبه «كافيار الشرق»
A A يسمونه «كافيار الشرق» و«الذهب الأبيض» و«العش الذهبي» وغير ذلك، إنه «عش العصفور القابل للأكل – Birds› Nest»، وهو واحد من أندر وأغلى أطباق الحساء الصينية في العالم. وهذا الطبق الغريب يتكون من لعاب عصفور أو طائر السمامة الصغير الذي يعيش في الكهوف وخصوصا في الكهوف جنوب وجنوب شرقي آسيا، حول المحيط الهندي (خصوصا تايلاند والفلبين وبروناي وسنغافورة وماليزيا وإندونيسيا وفيتنام وكمبوديا وميانمار) والذي يعتبره البعض نوعا من أنواع السنونو.
وهناك ما لا يقل عن 92 نوعا من أنواع طيور/عصافير السمامة التي تعيش في المناطق الاستوائية والباردة على حد سواء، والمعروفة بطيرانها السريع و«أجنحتها الطويلة وذيلها المشقوق».
وعلى عكس معظم الطيور العادية التي تبني أعشاشها على الأمكنة المسطحة، تبني هذه الطيور الصغيرة والمهددة بالانقراض أعشاشها عادة على جانب أو حافة المنحدرات الجيرية وجدران الكهوف الضخمة (تستغرق عملية بناء العش بين 30 و35 يوما). فمع مرور الزمن تعلمت هذه الطيور، كما يبدو، وتأقلمت مع طبيعة الكهوف، على كيفية استخدام اللعاب لخلق ألياف صلبة يمكن أن تعلق على الجدران الصخرية. وبسبب هذه المهارة، أصبح بإمكان السمامة بناء أعشاشها في أي مكان يطيب لها.
ولأن الحصول على هذه الأعشاش الصغيرة من على جدران الكهوف العميقة والهائلة والمظلمة، أمر صعب للغاية ويتطلب مهارات عالية والمخاطرة الكبيرة بالحياة من قبل «الحاصدين» أو الجامعين لها، ولأنها أيضا مطلوبة جدا من قبل الصينيين لفوائدها الصحية الجمة (خصوصا إطالة العمر ومعالجة السرطان وتحسين تركيز الفرد وتحسين البشرة والقدرات الجنسية للأفراد)، فإن هذه الأعشاش غالية الثمن يتراوح سعر الكيلو غرام من الأعشاش البيضاء بين 5000 و6000 دولار، بينما يصل سعر كيلو الأعشاش الحمراء أو السمراء إلى 10000 دولار، ولهذا يعتبر هذا المنتج من أغلى المنتجات الحيوانية التي يستهلكها البشر على الإطلاق. ويصل سعر طبق حساء عش الطيور في هونغ كونغ وبعض الدول إلى مائة دولار تقريبا. وفضلا عن هذه الفوائد الصحية غير المثبتة علميا، تستخدم الأعشاش لصناعة مواد التجميل وفي صناعة المأكولات والمشروبات كمواد مضافة.
وحسب الموسوعة الحرة فإن اسم عش الطيور القابل للأكل – edible bird›s nest هو يان وو – yàn wō الذي يعني حرفيا «عش السنونو (أو السمامة)»، وغالبا ما يكون تعريفا لحساء عش الطيور، ومع ذلك فإن المعنى الدقيق للاسم ليان وو هو: «عش غير مطبوخ».
يتم تبخير أو نقع العش في الماء قبل التخلص من الشوائب وما يعلق به من شوائب ملقط صغير وبعدها يتم غليه على نار هادئة مع مرقة الدجاج أو غيرها من المرق مع التوابل والبهارات. ولا بد من استخدام كمية لا بأس بها من الأعشاش للتمتع بمذاقه الفريد. وأحيانا يتم استخدام عش الطير لصناعة وتحضير الحلويات، وأحيانا يضاف إلى تارت البيض، وأحيانا في تحضير بعض أطباق الأرز مثل طبق كونغي المعروف جدا في آسيا.
فعلميا وطبيعيا تحتوي هذه الأعشاش على نسبة كبيرة جدا من البروتين (70 في المائة) الذي يحتوي على جميع الأحماض الأمينية الأساسية، الأمر الذي يفسر انتشار هذا النوع من أنواع الطعام الشهي بين أوساط الأرستقراطيين منذ زمن بعيد. كما تحتوي الأعشاش الجالوتينية على 6 أنواع من الهرمونات وعلى رأسها هورموني التستوستيرون والأستراديول المهمان. «كما تحتوي الأعشاش على الكربوهيدرات والرماد وكمية صغيرة من الدهون. وقد أشارت بعض الأبحاث السابقة إلى أن الأعشاش تحتوي أيضا على مواد يمكن أن تحفز انقسام الخلايا والنمو، وتعزيز نمو الأنسجة وتجديدها، وأنه يمكن أن تمنع عدوى الأنفلونزا». ولكن، ومن المعروف أن أعشاش الطيور قد تتسبب في الحساسية المفرطة، وخصوصا حساسية العوار – anaphylactic التي تهدد الحياة أحيانا.
فالكثير من الصينيين يؤمنون ومنذ قرون طويلة بأن الحل في الحفاظ على شبابهم وقواهم الجسدية والعقلية يكمن في تناول أعشاش طير السمامة.
على أي حال فإن على الجامعين للأعشاش أن يقوموا بعملهم الخطير خلال غياب أنثى السمامة في النهار، وعليهم أن يعرفوا الوقت المناسب لأخذ العش، فلا توجد فائدة في أخذه مبكرا قبل اكتماله وتمتعه بالمواصفات المطلوبة، من الناحية المادية والتجارية. كما عليهم تنظيف العش قبل بيعه، وقد تستغرق عملية التنظيف الصعبة لـ10 أعشاش 8 ساعات تقريبا.
وأحيانا على الجامعين للأعشاش الانتظار ثلاثة أشهر لجمع أعشاشهم، أي بعد تفقيس البيض وتمكن العصفور الجديد أو المولود الجديد من الطيران والانطلاق إلى الفضاء العام استكشافا لبيئته وعالمه الجديد. وعادة ما يكون هذا العش الثالث الذي يبنيه العصفور بعد أن تم سلب العشين الأولين منه.
وكما سبق وذكرنا لأن طيور السمامة من الطيور أو العصافير المهددة بالانقراض وخصوصا في جزر أندمان ونيكوبار في شرق خليج البنغال وفي جزيرة هاينان وفي داجو في إقليم سيشوان في الصين، منعت السلطات الصينية عمليات حصاد أو جمع الأعشاش في هذه المناطق، ولهذا السبب أيضا وللحفاظ على التقليد القديم، بدأ قطاع جديد في ماليزيا وتايلاند وبعض البلدان الأخرى يعرف بقطاع مزارع أعشاش السمامة، وهو عبارة عن مبان فارغة أو منازل فارغة تخصص لاستقطاب عصافير السمامة لبناء أعشاشها وبالتالي جمعها لغايات تجارية وعلى نطاق واسع.
وقد انتشرت البيوت والمباني الخاصة بإنتاج أعشاش الطيور أو ما يعرف بمزارع أعشاش الطيور، في منذ بداية القرن التاسع عشر في إندونيسيا ولا تزال تنتشر أكثر هذه الأيام في ماليزيا وتايلاند بسبب القيمة التجارية العالية لهذه الأعشاش والطلب المتزايد عليها. وتعمل الحكومة الماليزية هذه الأيام وبمساعدة وزارة الزراعة على تشجيع عامة المواطنين على إدارة هذه المزارع. لكن العملية ليست بهذه السهولة إذ إن الأمر يتطلب معرفة بنطاق طيران السمامة وحجم أعدادها في منطقة معينة بالإضافة إلى مصادر غذاء الطيور في المنطقة.
يعتبر الصينيون في جميع أنحاء العالم من أهم الزبائن الذي يشترون عش الطيور ويستهلكونه بكثرة، وعلى رأس البلدان والمناطق التي تستورده وتستهلكه تأتي هونغ كونغ وتايلاند والصين وتايوان. أضف إلى ذلك الشرق الأوسط والولايات المتحدة الأميركية. ويستهلك الصينيون عش الطيور بكثرة ويقدمونه كهدايا ثمينة خلال فترة رأس السنة الصينية. وتعتبر هونغ كونغ المركز التجاري الرئيسية والأهم في العالم لعش الطيور حيث يستهلك أهلها وسكانها 60 في المائة من أعشاش العالم.
يعود تاريخ استخدام واستهلاك والاتجار بحساء عش الطيور عند الشعب الصيني إلى عهد أسرة مينغ (بين 618 و907 قبل الميلاد) إلى ما قبل 1500 سنة كما يؤكد الخبير ين تشينغ كونغ – Yun – Cheung Kong من الجامعة الصينية في هون كونغ. وتقول الحكايات التراثية إن تشينغ هو – Cheng Ho وهو دبلوماسي وأدميرال بحري ومستكشف صيني، كان أول شخص في تاريخ الصين يتناول أو يأكل حساء عش الطير. كما تقول المعلومات المتوافرة إنه بعد استهلاك وإهلاك جميع المصادر في الصين نفسها، تم جلب الأعشاش في تلك الحقبة من البلدان الجنوبية الشرقية للصين التي كانت تعرف آنذاك بالنان يانغ – Nan yang، وقد عمل البحارة الصينيون على جلبها من تلك البلدان وقدموها للإمبراطور الصيني كطعام من أطعمة الملوك الخاصة ولذلك بقيت طعاما خاصا بالإمبراطور وعائلته وبلاطه دون غيرهم لسنوات طويلة. وكان على رأس هؤلاء البحارة تشينغ هو الذي أبحر بأسطول ضخم من سبع سفن وآلاف الجنود نحو الجنوب للتعرف على عادات ومطابخ وخيرات هذه المناطق وتوثيقها. وكان من بين هذه الخيرات عش الطيور القابل للأكل. ولذلاك يعتقد أنه كان أول من جلبه إلى الوطن الأم.
ولم يتعرف عامة الناس أو الأغنياء منهم على وجه التحديد على الحساء قبل نهاية حكم الإمبراطور. وكما يبدو فقد كان الإمبراطور يبادل هذه الأعشاش بالبورسيلان، كما تشير الحفريات في كهوف برنيو.
وبالمناسبة لقد تعرفت على قصة عش الطيور لأول مرة في بداية التسعينات وعبر كتاب مصور ورائع من الحجم الكبير للمصور الفرنسي المعروف في مجلة ناشيونال جيوغرافيك – إيرك فالي – Eric Valli وديان سمرز الصادر عن دار ثيمس وهدسون في لندن. ويصور الكتاب الذي يحمل عنوان «جامعو أعشاش كهف النمر» (كهف ريماو – Rimau Cave أو كهف النمر في جنوب غربي تايلاند) عملية جمع أعشاش طيور السمامة في هذا الكهف المخيف والغريب وكيف يصنع هؤلاء الناس حبالهم وكيف يستخدمون عصاهم وقصبهم الطويل ومهاراتهم النادرة للوصول إلى هذه الأعشاش المنتشرة على حيطان الكهف والذي يصل ارتفاع سطحه إلى مئات الأمتار. وقد نشر فالي صور الكتاب في صفحته على شبكة الإنترنت تحت عنوان «صيادو الظلال». وفي هذا الكتاب الذي يصور المخاطر التي يتخذها جامعو أعشاش الطيور وللتعبير عن عمق الكهف يقول الإهداء: «إلى سارة وإلى الرجال الذين يذهبون حيث تطير العصافير».
وحسب هذا الكتاب المهم، فإن الحاجة إلى أعشاش الطيور طبيا وطعاميا في المطبخ الصيني تطور بشكل مخيف في منتصف القرن السابع عشر وقد تم عبور أكثر من 6 أطنان من أعشاش الطيور (4 ملايين عش) عبر مرفأ بتافيا في العاصمة الإندونيسية جاكرتا في بداية القرن الثامن عشر. وخلال تلك الفترة أيضا عرف أحد الصينيين الذين يعيشون في جنوب تايلاند ويدعى هاو يينغ – Hao Yieng قيمة أعشاش الطيور التي رآها في الجزر القريبة منه، فقدم في نهاية القرن الثامن عشر هدية إلى ملك سيام (الاسم القديم لتايلاند قبل العام 1939) تضم خمسين صندوقا من التبغ، أرضه، زوجته وأطفاله وبعض العبيد للملك مقابل أن يسمح له بحق جمع أعشاش الطيور واحتكارها، فقبل الملك كما تقول القصة التبغ وأعاد ممتلكات يينغ له ومن ضمنها أهله وعبيده ومنحه حق استغلال هذه الصنعة مقابل مبلغ سنوي. ويقال إن يينغ هو الذي تعلم كيفية نقع الأعشاش في الماء ولهذا أصبح واحدا من أغنى الشخصيات في البلاد. ويقال أيضا ولأنه عرف كيفية تذويب الأعشاب في الماء، إنه كان وراء اكتشاف حساء عش الطيور.
لا يزال لعملية استهلاك عش الطيور وتقديمه كهدايا تعبيرا عن المكانة المهمة والقدرة على التأثير للفرد في المجتمع الصيني. وقد درج الصينيون على تقديم هذه الأعشاش للأطفال الصغار إيمانا منهم بأنه سيساعدهم على النضوج والنمو.