أخبار فنية و ثقافية

قاضى اعتبر الفن التشكيلى منصته بسبب سرقة لوحات من متحفه

يُعّد سعيد واحدًا من أوائل الرواد فى الفن المصرى الحديث، وكذلك واحدًا من أهم وأبرز فنانى الحركة التشكيلية المصرية الحديثة، وظهر ذلك فى امتلاكه للتقنيات الفنية، والعناصر المرسومة، وتوزيع الضوء والظلال والحركة فى لوحاته، ومن أشهر لوحاته التى اتسمت بالتفرد والعذوبة والحيوية لوحة بنات بحري، والتى تُجسّد فتيات رأس التين المعروف باسم حى الجمرك، وأيضًا حى بحري، وقد رسمهن فى ردائهن بالملاءة اللف السكندرية ومشية شعبية أخّاذة تبرز دلالهن وجمالهن، وكذلك لوحة فتاة مصرية على رأسها منديل وهى تصّور واحدة من بنات مصر بزّيها الشعبي، وقد غطت رأسها ذا الشعر الأسود بمنديل أزرق تزينه خيوط صفراء، بينما كشف عن جزء من صدرها بما يوحى بحيويتها وصغر سنها وشبابها، وابتسامة من شفتين عريضتين مكتظتين، وعينين عسليتين تنظران فى تأمل، فقصد بذلك أن نصف الأنوثة عند الفتيات المصريات، حيث كان من سماته الفنية حرصه على إظهار المرأة المصرية ذات خصوبة وحيوية وجمال طبيعى.

لم يمنعه سلك القانون وعمله قاضياً من الاهتمام بمواهبه الفنية، ففرضت أعماله مكانها المُميز وسط أعمال الفنانين العالميين، إنه الفنان التشكيلى المصرى محمود سعيد، الذى كان يحيا فى عالم من الألوان والتفاصيل المُبهرة التى جسّدت واقعه واهتمت بتفاصيل قوية كانت تُجدد نفسها طوال حياته، فاستمرت أعماله فى الخلود، لتُباع لوحته “الدراويش” كأغلى لوحة فى الشرق الأوسط لفنان مُعاصر.

تجدر الإشارة إلى أن الفنان محمود سعيد ولد بحى الجمرك، رأس التين، فى الإسكندرية- بالقرب من مسجد سيدى المرسى أبو العباس- فى 8 أبريل عام 1897، لأسرة ثرية مثقفة ذات مكانة اجتماعية، ما كان له تأثير كبير فى تشكيل شخصيته.

كان والده محمد سعيد باشا رئيس وزراء مصر فى عهد الخديو عباس حلمى الثانى فى السنوات الأربع التى سبقت الحرب العالمية الأولى، وعاد لفترة ثانية خلال عام 1919، فى الفترة من 20 مايو وحتى 20 نوفمبر، وقدّم استقالته احتجاجًا على إرسال لجنة ملنر إلى مصر.

وقد كان لانتماء محمد سعيد باشا لأسرة تعمل بالقانون أبلغ الأثر فى توجيه الابن محمود إلى أن ينتهج نهجها فى دراسة القانون، مع الاعتبار أن موهبته الفنية قد ظهرت فى سن مبكرة، ويرجع ذلك إلى اهتمام الأسرة بالفنون والآداب، وحرصها على تنمية موهبة ابنها، بعد أن عهدت به إلى فنانة إيطالية لقنته دروسًا فى الفن داخل المنزل، وعندما تخصص فى دراسة الحقوق بجامعة القاهرة، ذهب لصقل موهبته الفنية ودراسة الفنون فى بعض المراسم الخاصة قبل السفر إلى العاصمة الفرنسية التى كانت القمة فى سماء الفن والثقافة.

حصل الفنان التشكيلى الكبير على ليسانس الحقوق عام 1919، ثُم سافر إلى باريس لاستكمال الدراسات العُليا للقانون، وهناك كان لقاؤه بالفنون الأوربية التى عشقها، حيث التحق بالقسم الحر بأكاديمية جراند شومبير لمدة عام، ثم أكاديمية جوليان، وكان عاشقًا لمُتابعة التجارب الفنية التشكيلية للمعروفين من رواد هذا الفن، بجانب متابعة أعمال المعاصرين منهم، بجانب مُشاهداته للمُقتنيات الفنية فى متاحف باريس ومعارضها، والقراءة حول تاريخ الفن فى كُلّ من إيطاليا وفرنسا وبريطانيا.

ومن أشهر لوحاته- أيضا- مراكب الصيادين ذات الأشرعة على نهر النيل، ولوحته للمصلين وقد ظهروا راكعين فى خشوع وهم يلبسون عمائمهم وعباءاتهم بما يوحى بجو السكينة والخشوع، وأيضًا لوحة الدراويش، التى رسمها عام 1935، والتى حققت أعلى مُقابل مادى للوحة فى المنطقة العربية، وبيعت عن طريق صالة مزادات كريستيز العالمية بمبلغ 2، 434 مليون دولار، وتُعّد بذلك أغلى لوحة رسمها فنان فى الشرق الأوسط فى العصر الحديث، وتُجسّد المتصوفين الذين لبسوا طرابيشهم وثيابهم الفضفاضة، وظهروا وهم يمارسون واحدة من طقوسهم وهى الدوران حول أنفسهم فى ساحة المسجد.

ومن الطرائف التى صاحبت رسمه لإحدى لوحاته الشهيرة باسم بائع العرقسوس أنه برغم انتقاله للسكن بالقاهرة ووجود مسكن آخر له بحى جناكليس بالإسكندرية إلا أنه كان يحن لمسقط رأسه بالحى الشعبى بحرى بالقرب من مسجد المرسى أبى العباس، وكان يجلس على أحد المقاهى الشعبية فإذا به يعجب ببائع العرقسوس، وسرعان ما طلبه واتفق معه على أن يرسمه بحالته كبائع عرقسوس، وقد تم ذلك على مدى ثلاث جلسات فنية تمت بمحطة الرمل بالإسكندرية.

وتباينت أعمال سعيد بحسب المراحل الفنية الجديدة التى مر بها، ففى مرحلة الأربعينيات اتجه سعيد لرسم البورتريه، أو الصورة الشخصية، ومن خلالها اهتم بإبراز العُمق النفسى للشخصية.

وفى الخمسينيات اتجه سعيد إلى رسم المناظر الطبيعية والمعالم السياحية، بما يوحى بالهدوء وترك المشاعر المتأججة والاتجاه إلى الطبيعة بأضوائها الهادئة الآمنة، وقد أخرج فيها عدة لوحات تُشبه إبداعات الفنانين العالميين، منهم الفنان الإسبانى “جويا”، وقد جاءت هذه المرحلة الأخيرة بعد أن اعتزل فى آخر حياته الحياة العامة، وكان ذلك بعد أن فرغ من العمل فى القضاء الذى تدرج فى وظائفه، إلى أن أصبح مُستشارًا قانونيًا.

حرص محمود سعيد على إقامة المعارض الفنية، وتنوع أماكنها بُغْية إشهار أعماله، وعرضها على أكبر عدد من الجمهور المُهتم بالفن التشكيلي، والمُشاركة فى الحياة الفنية المحلية والعالمية، فأقام معرضين لأعماله فى نيويورك عام 1937، معرض فى أتيليه الإسكندرية عام 1943، معرض بجمعية الصداقة المصرية الفرنسية بالإسكندرية عام 1945، أقام معرض بمتحف الفنون الجميلة بالإسكندرية عام 1960 ضم مائة وعشرين لوحة من لوحاته، وكذلك شارك عام 1953 فى معرض الربيع، والذى أُقيم فى القاهرة، مع نخبة من الفنانين التشكيليين، وفى أعقاب وفاته أقُيم معرض شامل للوحاته بمتحف الفنون الجميلة بالإسكندرية ضم مائة وسبعة وثلاثين لوحة.

شارك سعيد كذلك فى كثير من المعارض الجماعية الدولية، منها معرض باريس الدولى عام 1937، بينيالى فينسيا الدولى ثلاث مرات، معرض اليونسكو للفنانين العرب فى بيروت عام 1953، والمعرض الفن المصرى بالخرطوم عام 1953، المعرض المصرى بموسكو فى عام 1958.

تم تكريم محمود سعيد على أكثر من مستوى، فنال ميدالية الشرف الذهبية فى معرض باريس الدولى عام 1937 عن الجناح المصري، ثم منحته فرنسا وسام اللجيون دوبنر عام 1951.

وفى عام 1960 كان أول فنان تشكيلى يحصل على جائزة الدولة التقديرية للفنون وتسلمها من الرئيس الراحل جمال عبد الناصر.

توفّى محمود سعيد فى نفس اليوم الذى ولد فيه 8 إبريل عام 1964، بعد أن تَبَّرع بقصره الواقع فى شارع محمد سعيد باشا، والمُسمّى باسم والده، فى حى جناكليس بالإسكندرية إلى وزارة الثقافة التى خصصته قصرًا ثقافيًا يضم مجموعة من المتاحف الفنية ومنها متحف سيف وأدهم وانلي، ليُطلق عليه مركز “محمود سعيد للمتاحف بالإسكندرية”.

زر الذهاب إلى الأعلى