تعتبر السيادة على مدينة القدس من أصعب الملفات التي طالما حاول المفاوضون الالتفاف عليها وتأجيلها إلى ما يسمى بالحل النهائي، وهي الصخرة التي تحطمت عليها العديد من المبادرات التي حاولت التوصل إلى حل للصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
ويطالب الفلسطينيون بالقدس الشرقية المحتلة عاصمة لدولتهم المنشودة وفقاً لقرارات للشرعية الدولية وقرارات الأمم المتحدة والحقائق والتاريخ، إلا أن الدولة الصهيونية ما زالت تمارس سياسة فرض الأمر الواقع عبر ترسيخ الاحتلال في شطري المدينة ويصفون القدس الموحدة بـ”عاصمتهم الأبدية”.
وبقيت قضية القدس من القضايا المستعصية على الحل ضمن اتفاقية أوسلو عام 1993، التي نصت على أن وضع المدينة سيتم التفاوض بشأنه في مراحل لاحقة خلال عملية السلام مع الفلسطينيين.
ورغم أن الأمم المتحدة تعترف بالقدس الشرقية كأرض محتلة وتخضع لبنود معاهدة جنيف الرابعة، وترفض بذلك الاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على القدس الشرقية، إلا أن إسرائيل استمرت في توسيع حدود القدس في تحد للقانون والمجتمع الدولي.
والآن ينتظر العالم إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب المثير للجدل دوماً القدس عاصمة لإسرائيل، متجاهلاً بذلك تحذيرات صدرت في الشرق الأوسط والعالم من أن خطوة كهذه ستنسف عملية السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين.
تاريخ القرار
رغم مرور 37 عاماً على قرار الاحتلال الاسرائيلي ضم الجزء الشرقي من مدينة القدس إليها عام 1980، والذي احتلته بعد حرب يونيو 1967 وإعلان المدينة عاصمة لها، إلا أن الأمم المتحدة والمجتمع الدولي لا يعترف بالقدس كعاصمة لإسرائيل، ويعتبر القدس الشرقية جزءاً من الأراضي الفلسطينية المحتلة.
ويضم القسم الشرقي من المدينة الأماكن المقدسة الإسلامية والمسيحية بالإضافة إلى “حائط المبكى”.
وعقب القرار الإسرائيلي ضم القدس الشرقية عام 1980، نقلت معظم دول العالم سفاراتها من القدس الغربية إلى تل أبيب تماشياً مع القرار رقم 478 الصادر عن الأمم المتحدة.
إلا أن الولايات المتحدة الأمريكية وقعت مع إسرائيل في 19 يناير 1982 وبالتحديد في اليوم الأخير لولاية الرئيس الأمريكي رونالد ريغان، وثيقة تتناول وضع القدس العربية المحتلة سميت “اتفاق إيجار وشراء الأرض” حصلت الحكومة الأمريكية بموجبها على قطعة أرض من أملاك الوقف الإسلامي والأملاك الفلسطينية الخاصة في القدس الغربية المحتلة عام 1948 لبناء السفارة الأمريكية عليها.
واعتبر التوقيع على هذه الوثيقة اعترافاً ضمنياً أمريكياً بسيادة إسرائيل على القدس، رغم أن القانون الدولي يحرم الحصول على أرض من سلطة الاحتلال عن طريق الاستئجار أو الشراء.
وعام 1990، اتخذ الكونغرس الأمريكي قرار رقم “106”، الذي نص على نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس المحتلة، وصدر قانون نقل السفارة الأمريكية عام 1995.
وشرع القانون كافة المزاعم والأطماع اليهودية في مدينة القدس العربية، وتنكر في الوقت نفسه لتاريخ وواقع القدس والسيادة العربية الإسلامية عليها.
وتضمن القانون ثلاثة بنود: الأول أن تبقى القدس موحدة، أي تكريس الاحتلال الإسرائيلي للقدس بشطريها، والثاني: يعترف بالقدس الموحدة عاصمة لإسرائيل، والثالث: يلزم الإدارة الأمريكية بنقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس وإقامة مبنى السفارة فيها حتى عام 1999 أو متى يحين الوقت لذلك.
وأعطى القانون الرئيس الأمريكي سلطة تأجيل تنفيذه لمدة 6 أشهر، وإحاطة الكونغرس بهذا التأجيل، وهو ما دأب عليه الرؤساء الأمريكيون المتعاقبون منذ عام 1998.
ولم يفعّل أي من الرؤساء بيل كلينتون وجورج بوش الابن وباراك أوباما ذلك القانون في فترات حكمهم، لخطورة تبعات هذا القرار، وخوفاً من اشتعال انتفاضة جديدة ونسف عملية السلام المستعصية أصلاً.
ومع إعلان الرئيس ترامب في خطابه عن نيته توقيعه هذا القانون، سيكون أول رئيس أمريكي يعترف بالقدس عاصمة لإسرائيل، ولتكون بذلك الولايات المتحدة أول دولة في العالم تقر بذلك رسمياً.
احتلت إسرائيل القدس الشرقية عام 1967، وتعتبر المدينة بكاملها عاصمة لها، في مخالفة صريحة لمقررات الأمم المتحدة التي لا تعترف بسيادة إسرائيل على القدس بشكل كامل، والتي تضم مواقع إسلامية ومسيحية مقدسة.
إلا أن إسرائيل، ومنذ عام 1967، أقامت عشرات المستوطنات غير الشرعية وفق القانون الدولي في القدس الشرقية، لآلاف المستوطنين اليهود، في محاولة لتغيير ديموغرافية المدينة.
تجدر الإشارة إلى أن مقر سفارة الولايات المتحدة الرسمي في إسرائيل يقع في مدينة تل أبيب، إلا أن لها قنصلية عامة في القدس، تقول وسائل إعلام عدة أن السفير لا يغادرها.
خطورة القرار
تكمن خطورة الخطوة الأمريكية في أن نقل السفارة لمدينة القدس يعد اعترافاً نهائياً بدولة إسرائيل، وبالتالي أصبحت القدس عاصمة لإسرائيل ولا داعي لوضعها على طاولة المفاوضات، وفقاً للمنظور الأمريكي، وسيتم التعامل مع هذا الملف عالمياً وليس فقط أمريكياً.
وكانت المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية توقفت في أبريل عام 2014، بعد رفض إسرائيل وقف الاستيطان، والإفراج عن المعتقلين القدامى في سجونها، والالتزام بحل الدولتين على أساس حدود 1967.
وهدد مسؤولون فلسطينيون أنه في حال الإعلان عن نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب للقدس فإنهم سيعيدون النظر بالاعتراف بدولة إسرائيل، وسينفذون خطوات احتجاجية أخرى متعلقة بكامل المسار السياسي منها تعليق المفاوضات برعاية أمريكية.
ويرى محللون أن الحديث نقل السفارة الأمريكية للقدس يعني نهاية حل الدولتين وانتهاء المسار التفاوضي وإغلاق الباب كلياً أمام المفاوضات.
تحذيرات دولية
بدوره، حذر الاتحاد الأوربي الثلاثاء، من أن أي “خطوة أحادية الجانب” حول تغيير وضع مدينة القدس، ستكون لها انعكاسات سلبية على مستوى العالم.
من جانبه، قال مكتب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في بيان صحفي، إنه “أبلغ نظيره الأمريكي دونالد ترامب، بأنه قلق من إمكانية أن تعترف الولايات المتحدة بصورة أحادية بالقدس عاصمة لإسرائيل”.
وجدد تأكيده على أن مسألة وضع القدس يجب التعامل معها في إطار مفاوضات السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين بهدف إقامة الدولتين الفلسطينية والإسرائيلية.
من جهتها، أعلنت جامعة الدول العربية على لسان أمينها العام أحمد أبو الغيط، أن اتخاذ ترامب قرارا بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل يعزز التطرف والعنف ولا يخدم عملية السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين.
وفي السياق ذاته، حذر وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي خلال اتصال هاتفي مع نظيره الأمريكي ريكس تيلرسون من “تداعيات خطرة” لأي قرار بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل.
وفي سياق متصل، أكدت وزارة الخارجية السعودية أن الاعتراف الأمريكي بالقدس عاصمة لإسرائيل، يخالف القرارات الدولية التي أكدت حقوق الشعب الفلسطيني التاريخية والراسخة في القدس، والتي لا يمكن المساس بها أو محاولة فرض أمر واقع عليها.
كما أرسل عاهل المغرب الملك محمد السادس رسالة إلى ترامب، أعرب فيها عن القلق البالغ الذي ينتاب الدول والشعوب العربية والإسلامية، إزاء الأخبار المتواترة بشأن نية إدارته الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل سفارتها إليها.
وفي نفس الإطار، أكد الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي على موقف بلاده بشأن الحفاظ على الوضعية القانونية للقدس ضمن المرجعيات الدولية والقرارات الأممية ذات الصلة.
ودعت منظمة التعاون الإسلامي إلى عقد قمة استثنائية للدول الإسلامية في حال قررت الولايات المتحدة الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، في خطوة اعتبرت المنظمة أنها ستشكل “اعتداء” على العرب والمسلمين.
انتفاضة جديدة
حذرت مجلة فورين بولسي الأمريكية من أن المضي قدماً في خطة نقل السفارة يهدد باندلاع انتفاضة فلسطينية ثالثة، واصفة تلك الفكرة بأنها مروعة لإسرائيل وفلسطين وللشرق الأوسط.
وقالت الصحيفة إن “نقل السفارة سيكون خطأ هائلاً، ليس فقط للفلسطينيين ولكن لسمعة أمريكا وموقفها الدبلوماسي وأيضاً للأمن القومي الإسرائيلي”.
وأضافت نقلاً عن مسؤولين أمريكيين إنه “سيكون من الصعب التنبؤ برد الفلسطينيين على هذا الوضع، لكن هناك احتمال كبير بانفجار الغضب وربما العنف، لأن القدس هي القضية الأكثر حساسية بين الفلسطينيين والإسرائيليين مثلما ظهر في اندلاع الانتفاضة الثانية ومواقف أخرى، ولو رأى الفلسطينيون أن مستقبل المدينة التي يعتبرونها عاصمة دولتهم المستقبلية تعرقله السياسة الأمريكية فإن الرد الغاضب والعنيف في شكل انتفاضة عفوية، أو حتى منظمة ربما يكون لا مفر منه، وإن لم يكن وشيكاً”.
سحب الاعتراف بإسرائيل
إلى ذلك، فقد صرح كبير المفاوضين الفلسطينيين صائب عريقات أن نقل السفارة الامريكية من تل أبيب إلى القدس يعني “الاعتراف بالقدس الموحدة التي تضم القدس الشرقية المحتلة، أي الاعتراف بضم إسرائيل للقدس الشرقية”.
وأضاف عريقات أنه سيقدم استقالته على الفور من منصبه كبير المفاوضين الفلسطينيين، لأنه لا يستطيع بعد ذلك “أن يوهم الفلسطينيين بأن حلاً للقضية لا يزال ممكناً، بعد أن تلاشى حل الدولتين بنقل السفارة”، مشيراً إلى أن السلطات الفلسطينية ستسحب اعترافها بدولة إسرائيل.
وأشار عريقات إلى أن “نقل السفارة إلى القدس يعني أن تغلق الولايات المتحدة سفاراتها في كافة العواصم العربية، مؤكداً أن الشعوب العربية ستثور في الشوارع ولن تدع السفارات الأمريكية في البلاد العربية تتمكن من مزاولة عملها”.
ومع كل هذا، يبدو أن ترامب سيبقى مصراً على تنفيذ وعده الانتخابي وضرب جميع التحذيرات عرض الحائط، مما يهدد باندلاع انتفاضة شعبية فلسطينية جديدة ربما تقود لحرب مسلحة جديدة في المنطقة المشتعلة أصلاً.