نشر الدكتور محمد عثمان الخشت رئيس جامعة القاهرة، نص المحاضرة التى ألقاها خلال المؤتمر العالمى للأزهر مؤكدا أن ما ذكره فى المحاضرة كلام مدروس تماما وبدقة، وأعنيه تماما، وسبق التعبير عنه في العديد من أبحاثي ومؤلفاتي وتحقيقاتي لكتب التراث، والتي تنشر عبر 38 عامًا مضت والتي تجاوزت 90 كتابًا وتحقيقًا وبحثًا أكاديميًا منشورا في مجلات علمية محكمة.
وقال الخشت فى بيان له نشره على صفحته الشخصية على موقع التواصل الاجتماعى ” الفيس بوك ” أنه فيما يلي نص الورقة العلمية لمحاضرة الأزهر ، وأيضا ما أمكن الوصول إليه من تسجيل، لأنه للأسف تم اقتطاع وحذف جزء من كلامي في التسجيل المذاع،والى نص المحاضرة :_
* تطوير العقل الديني القديم:
لابد من تأسيس خطاب ديني من نوع مختلف، وليس تجديد الخطاب الديني التقليدي، فتجديد الخطاب الديني عملية أشبه ما تكون بترميم بناء قديم، والأجدى هو إقامة بناء جديد بمفاهيم جديدة ولغة جديدة ومفردات جديدة إذا أردنا أن نقرع أبواب عصر ديني جديد. والمقصود هو الخطاب الديني البشري، وليس القرآن الكريم والسنة الصحيحة المطهرة.
ولا يمكن تجديد الخطاب الديني بدون تكوين عقل ديني جديد، ولا أؤمن بإصلاح العقل الديني القديم؛ لأن العقل الديني البشري القديم تشكل في ظروف اجتماعية وسياسية واقتصادية ومعرفية طرحتها العصور القديمة. والأبنية العقلية القديمة تلائم عصورها ولا تلائم عصرنا؛ فالزمان غير الزمان والمكان غير المكان، والناس غير الناس، والتحديات القديمة غير التحديات الجديدة. إنني أحب بيت أبي القديم لكنني لا أحب أن أعيش فيه، وأقدر تراثنا القديم لكنني أحب (أنا وغيري) أن نصنع تراثا جديدا نعيش فيه؛ فهم رجال ونحن رجال، وهم أصحاب عقول ونحن أصحاب عقول. إنني وغيري كثيرون لا نحب أن نكون في زمرة القائلين (بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا)(البقرة: 170).
وهذا ما سعينا إليه على مستوى الخطاب الديني في كتابنا (نحو تأسيس عصر ديني جديد) من أجل بيان أن كل ما جاء في التاريخ بعد لحظة اكتمال الدين التي أعلنها القرآن (اليوم أكملت لكم دينكم)(المائدة: 3)، إنما هو جهد بشري قابل للمراجعة، وهو في بعض الأحيان اجتهاد علمي في معرفة الحقيقة، وفي أحيان أخرى آراء سياسية تلون النصوص بأغراضها المصلحية المنحازة. وفي كل الأحوال – سواء كانت موضوعية أم مغرضة- ليست هذه الآراء وحيا مقدسا، بل آراء بشرية قابلة للنقد العلمي.
والعقل الديني ليس هو الدين نفسه في نقائه الأصلي، بل هو عقل تكون عبر التاريخ، وإذا كان الدين في نقائه الأصلي إلهيا، فإن العقل الديني هو عقل إنساني يتكون في التاريخ وتدخله عناصر إلهية وعناصر اجتماعية واقتصادية وثقافية وغيرها ويتأثر بدرجة وعي الإنسان في كل مرحلة. وتطوير العقل الديني، بما فيه من مكونات – لعل من أهمها علم أصول الدين الذي شكلته الفرق المتصارعة – غير ممكن بدون تفكيكه، وبيان الجانب البشري فيه، والعودة إلى الأصول الصافية القرآن والسنة الصحيحة. ومن الضروري العمل على ذلك كمسلمين مخلصين له الدين؛ فأنا مسلم ولست أشعريا، والنبي محمد صلى الله عليه وسلم مسلم وليس أشعريا.
* لا تكوين لعقل ديني جديد بدون تغيير طرق التفكير وتطوير علم أصول الدين:
يشمل تطوير العقل جوانب خمسة حاكمة له تطويرا عقلانيا نقديا بطريقة منظمة، وهي: أولا- تطوير العقل النظري، ثانيا-تطوير العقل الديني، ثالثا-تحرير ملكة الوجدان، رابعا-إصلاح طريقة عمل الطاقة الغريزية، خامسا-تطوير العقل العملي.
ومن أهم الشروط القبلية لتكوين لعقل ديني جديد:
أولا- إصلاح طريقة التفكير:
لأن العقول التي ضللتها الأهواء عن البرهان والحجة العقلية، لا يمكن أن تستقيم دون إصلاح ماكينة تفكيرها قبل أي شيء. إن طريقة التفكير هي المنهج، وكما قلت في موضع آخر:” المنهج عبارة عن الإجراءات التي تتبعها في تفكيرك وخطوات الاستدلال التي تسير عليها، ففي عملية الاستدلال توجد خطوات، حيث تسلمك الخطوة الأولى للخطوة التالية، فمن الممكن أن تعرض الفكرة الإيجابية على شخص يفكر بطريقة سليمة، وتعرض الفكرة الإيجابية نفسها في الوقت ذاته على إرهابي من داعش، فهل سوف يتعامل الاثنان بالطريقة العقلية نفسها مع الفكرة ذاتها؟ بطبيعة الحال لا. فالفكرة الإيجابية التي يستقبلها صاحب طريقة التفكير السليمة سوف تجعله يصل إلى نتائج وأفكار تنمية، وتطور، ومشاركة اجتماعية، وروح الفريق الواحد…إلخ. بينما الفكرة الإيجابية التي يستقبلها العقل المتطرف صاحب طريقة التفكير الخاطئة، سوف يترجمها هذا العقل المتطرف بطريقة باطلة، وسوف يصل لنتائج مختلفة وأفكار دموية، وحرق، وقتل، أي أنه من الممكن أن تكون محطة البث واحدة وقوية وإيجابية ويبقى الخطر كامنًا في كنه عقل من يستقبل هذه الأفكار، وطريقة تفكيره إزاءها! فطريقة استقبال العقل للأفكار وترجمتها بالاستنتاج والاستدلال، هي المحك وهي الفاصل في النتائج وطبيعتها”.
إذن لابد – أولًا- من فتح العقول المغلقة وتغيير طريقة المتعصبين في التفكير. فلن تستطيع أن تجعل إنسانا متسامحا وهو يعتقد أنه يملك الحقيقة المطلقة ويجزم بأن الآخرين على باطل، ولن تستطيع بث أفكار عقل مفتوح في عقل مغلق. فالعقل المغلق ليس مجهزا لاستقبالها مثلما أن التلفاز الأبيض والأسود ليس مجهزا لاستقبال محطات البث الفضائي HD .
ثانيا- رؤية العالم World View:
لن تستطيع أن تجعل طائفة متسامحة وهي تعتقد أن الكون يقوم على لون واحد وليس ألوانا متعددة، ولن تستطيع أن تقنع إنسانًا بالتسامح وهو يعتقد أن الله يريد أن يكون الناس كلهم نسخًا من بعضهم البعض، أو أن مشيئة الله تعالى تريد الناس متطابقين وليسوا مختلفين. ولن تستطيع أن تؤثر في إنسان يعتقد أنه مفضل عند الله على العالمين لمجرد نطقه وتلفظه ببعض الكلمات، أو لمجرد ولادته ضمن طائفة معينة.
إذن لابد من العمل على تغيير رؤية العالم وتجديد فهم العقائد في الأديان. ولن تتغير رؤية العالم إلا إذا جعلنا الكون نفسه كتابا مقدسا واحدًا مشتركًا بين الأديان المختلفة كتبها المقدسة، فإذا كانت الكتب المكتوبة المقدسة متنوعة بين الأديان، فإن هناك كتابا مقدسا لا يجب أن يختلف عليه اثنان، وهو الكون نفسه بوصفه صناعة إلهية. وأعمال الله البادية في كتابه الكوني تكشف عن التنوع والتعددية إلى مالا نهاية بقدر اتساع الألوهية إلى ما لا نهاية. ولا توجد في هذا الكتاب الكوني مخلوقات أو ظواهر تشكل نسخا واحدة متطابقة بدرجة مائة في المائة؛ مما يدل على أن التنوع والاختلاف والتعددية هي الأساس في الكون. ولا شك أن قوانين الله في الطبيعة تقوم على التنوع لكن لا يوجد قانون يعرض قانونا آخر، كلها تعمل في منظومة نسقية خلاقة.. (وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ) سورة النحل: آية 8.
وهذه الرؤية الفلسفية للأعمال الإلهية في كتابه الكوني المقدس، إذا ما تمكنت من العقول فإنها سوف تفتح الأبواب واسعة ليس فقط على مستوى رؤية العالم، بل على مستوى تجديد فهم العقائد في الأديان؛ وهو الأمر الذي يؤدي بالضرورة إلى فتح العقول والنفوس والضمائر أمام فكرة تقبل الآخر مهما يكن مختلفا عني وعنك، ويؤدي إلى اتساع (سبل السلام) أمام التسامح مع التعددية والتنوع الثقافي والحضاري والديني والعرقي، وغلق الطرق أمام الكراهية لمجرد الاختلاف، وسد المنعطفات أمام العنف لمجرد المنافسة.
وبقدر ما في الكون من تعددية يكون اتساع عظمة الخلق الإلهي، وبقدر ما في الوجود من تنويعات لا حصر لها يكون تنوع إبداع الألوهية اللامتناهي.
وبالمِثل – ولله المثل الأعلى في السموات والأرض وما خارجهما – يمكن التأكيد أنه بقدر ما يكون في المجتمع من انفتاح وتنوع واختلاف تكون قوة المجتمع وتكون قوة الدولة ويكون ارتقاء الشعب وتقدمه، بشرط قدرة المجتمع على “إدارة الاختلاف” في منظومة نسقية خلاقة.
* كيف يتم افتتاح عصر ديني جديد؟
لكي نقوم بإحداث نهضة لابد من الرجوع إلى فلسفة التاريخ، وهي تكشف عن أن عصور الانتقالات الكبرى لا تتم إلا بتغيير طرق التفكير، وهو ما قام به الأنبياء الكبار والفلاسفة والمصلحون الدينيون والقادة السياسيون الكبار.
إذا كانت المعركة بين العقل القديم والعقل الجديد، تقوم في أحد مظاهرها على “صراع التأويلات”، فإنها لن تحسم إلا لمن يتمكن من الانتصار في معركة تغيير “طرق التفكير”؛ فالمعارك في كل عصور الانتقال من عصر قديم إلى عصر جديد، كانت معارك بين طرق التفكير التقليدية وطرق التفكير الجديدة.
ولذلك عملنا في جامعة القاهرة على تطوير العقل وتغيير طرق التفكير، ومن أهم وسائلنا مقررا “التفكير النقدي”، و”ريادة الاعمال”، و”مبادرة تطوير اللغة العربية”. وإطلاق “مشروع التنمية الاقتصادية والإصلاح الديني”، وإطلاق مبادرة “خذ كتابا وضع كتابا”، وتوزيع كتب كبار الكتاب مجانا على الطلبة، وتطوير طرق الامتحانات، إلخ.
وحتى الآن نجد أننا، إما لدينا فريق يريد تقليد الماضي، والماضي المقصود به ماضي آبائنا، وإما لدينا فريق آخر يريد تقليد الغرب. فعلى سبيل المثال، عندما ألف الدكتور زكي نجيب محمود -رحمه الله- كتابه “شروق من الغرب”، كان يرى أن حدوث النهضة يقتضي أن نقوم بتقليد الغرب في كل شيء. ورد عليه الشيخ الغزالي -رحمه الله- في كتاب آخر بعنوان “ظلام من الغرب” . فالمسألة أصبحت (إما… أو…)، فأنا أرى أنه لا الشرق وحده ولا الغرب وحده، طريق النهضة، لأن فكرة التقليد نفسها هي فكرة مرفوضة. فكل عصر له ظروفه، وله معادلته، وله خصائصه. فالقرآن الكريم عندما يتكلم: “أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ”(غافر:82) لم يكن يقصد الأحداث، بل يقصد منطق التحول التاريخي.
* الواقع الحالي للعلوم الدينية
يوضح الواقع الحالي الذي نعيشه حتى الآن أن العلوم الدينية التي نشأت حول النص الديني تجمدت وابتعدت عن مقاصده، وتم تحويل النص الديني من نص “ديناميكي مفتوح” يواكب الحياة المتجددة، إلى نص “استاتيكي جامد” يواكب زمناً مضي وانتهي. فالقرآن الكريم نص مقدس مرن حمّال أوجه في كل العصور، ويواكب المتغيرات المعاصرة والمتجددة، وهو ما يتضح من خلال نزول القرآن على مدار ثلاثة وعشرين عاما، ومع ذلك نجد الآن أن المفاهيم التي نشأت حول القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة تجمدت وتحولت إلي نص ثابت. ولذا لابد من فتح باب الاجتهاد المتجدد حول المتن المقدس في كل العصور.
ومن ناحية أخرى، نجد أن الإصلاحيين المعاصرين لم يقوموا بالعودة إلى الكتاب في نقائه الأول، بل عادوا إلى المنظومة التفسيرية التي أنتجتها ظروف سياسية واجتماعية واقتصادية لعصور غير عصورنا، وعدوا كل الكتب القديمة هي كتب مقدسة، وهي تمثل المرجعية النهائية في فهم الدين، مع أنها في النهاية هي عمل بشري قابل للصواب والخطأ.
وإذا استعرضنا ما تم خلال المائتي عام الماضية، سنجد من ناحية، أن معظم علمائنا استعادوا كل المعارك القديمة، معارك زمن الفتنة الكبرى التي نشأت أيام عثمان بن عفان رضي الله عنه، ونحن لانزال نعيش في زمن الفتنة وعصرها، عصر الصراع، والانشقاق، والتكفير، والتفجير، ومعارك الهوية، ومعارك فقه الحيض والجنس والجسد، ومعارك التمييز بين الجنسين. وفي المقابل نجد أنهم لم يدخلوا بعد المعارك الجديدة والمعاصرة، معارك التنمية، ومعارك إنتاج العلوم الطبيعية والرياضية والاجتماعية والإنسانية، ومعارك الفساد، ومعارك الحرية، ومعارك الفقر والجهل والأمية، ومعارك الدفاع عن الدولة الوطنية.
* تطوير علوم الدين وليس إحياء علوم الدين
عندما ظهر دعاة الإصلاح بداية من القرن التاسع عشر، ودعوا إلى التحديث والإصلاح الديني لم يقم أي منهم بمحاولة “تطوير علوم الدين”، بل قاموا بـ “محاولة إحياء علوم الدين”، كما تشكلت في الماضي، وكأن النهضة تحدث بإحياء العلوم القديمة، على الرغم من أن العلوم القديمة هي علوم بشرية نشأت لكي تواكب العصر الذي وجدت فيه من مختلف الجوانب الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وبالتالي قد لا تكون مناسبة لعصور أخرى لها ظروفها وواقع حياتها التي قد تتباين تباينا جليا عن سابقتها. هي علوم عظيمة في عصرها، لكنها لا تصلح لكل زمان ومكان مثل المتن المقدس.
إن العلوم التي نشأت حول الدين علوم إنسانية، تقصد إلى فهم الوحي الإلهي. فالقرآن الكريم إلهي، لكن علوم التفسير والفقه وأصول الدين وعلوم مصطلح الحديث وعلم الرجال أو علم الجرح والتعديل…إلخ، علوم إنسانية أنشأها بشر، وكل ما جاء بها اجتهادات بشرية، ومن ثم فهي قابلة للتطوير والتطور. وهذه مسلمة واضحة وليست اكتشافا، لكن المتعصبين الذين تجمد عقلهم، وتجمد معه كل شيء، رفضوا الاجتهاد، وتمترسوا خلف التقليد. وهم لا يعرفون، ولا يريدون أن يعرفوا، أن من المنطق الفاسد والخلط الزعم بأن أية علوم شرعية بشرية هي مبادئ وقواعد يقينية مطلقة تصلح لكل زمان ومكان. فالبشر ذوو عقول نسبية متغيرة، والحقيقة تتكشف تدريجيا، ولا تأتي دفعة واحدة إلا من خلال “وحي” ، بل إن الوحي نفسه جاء منجما عبر ثلاث وعشرين سنة، وترك مساحة للجهد البشري في اكتشاف الحقائق والوقائع في الكون، بل أيضا في استنباط الأحكام الشرعية (لعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ ) (النساء: 83).
وعلى ذلك، فكل ما جاء فى التاريخ بعد لحظة اكتمال الدين التي أعلنها القرآن، جهد بشرى قابل للمراجعة، وهو في بعض الأحيان اجتهاد علمي في معرفة الحقيقة، وفى أحيان أخرى آراء سياسية تلون النصوص بأغراضها المصلحية المنحازة. وفى كل الأحوال – سواء كانت موضوعية أم مغرضة – ليست هذه الآراء وحياً مقدساً، بل هي آراء بشرية قابلة للنقد العلمي والتمحيص.
وبالتالي، فأنا أدعو إلى تطوير علوم الدين وليس إحياء علوم الدين. فقد بات من الضروري تفكيك الخطاب البشري التقليدي، والبنية العقلية التي تقف وراءه، وتأسيس خطاب ديني، وأصبح يمثل ذلك حاجة ملحة. فهناك فرق بين الخطاب الديني والنص الديني، فالنص الديني هو القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة. أما الخطاب الديني فهو عمل بشري في فهم القرآن والسنة يمكن إعادة النظر فيه. ويجب أن نعيد تفكيك هذا النص البشري لكي نعيد بناء العلوم.
* للتجديد دائرة معرفية أخرى!
كل من يعيشون في الخطاب القديم من الداخل، لن يمكنهم تأسيس عقل ديني جديد أو خطاب ديني جديد، ولا حتى يمكنهم تجديد القديم إلا بالتهذيب أو الاختصار أو الانتقاء أو الشرح، لكنهم في الجوهر يظلون أسرى القديم في مناهجه ومفاهيمه وتصوراته، وما التجديد عندهم في كثير من الأحيان إلا إبعاد لتيار قديم واستدعاء لتيار قديم آخر؛ لأنهم ببساطة ينظرون من الداخل، وحدود رؤيتهم مقيدة بإطار البناء من الداخل، ومحكومة بالمنهجيات التقليدية وطرق التفكير الموروثة والسارية.
ولذا أكاد أجزم – على مستوى الخطاب الديني – أن التجديد لا يمكن أن يأتي من المؤسسات الدينية الكلاسيكية في أية بقعة من العالم إلا إذا كانت لديها القدرة على التخارج والتعلم من دائرة معرفية أخرى. يمكن أن تحدث هذه المؤسسات تحسينا أو تجميلا هنا أو هناك، ويمكن أن تهدم حائطا وتبني حائطا آخر، لكنها لن تستطيع أن تهدم بناء كاملا تعيش داخله!
والرأي عندي أنه لابد أن يأتي التجديد من دائرة معرفية خارجية أو قادرة على التخارج، وهذا ما وجدناه في كل الأنبياء العظام والفلاسفة المبدعين، فإذا راجعت سير الرسل الكبار تجد أنهم حملوا رسائل من خارج الدائرة المعرفية لأقوامهم، وأنهم قبل الرسالة كانت لهم احتكاكات بدوائر معرفية خارجية؛ فالوحي لا يأتي عبثا.
ولنضرب مثلا بالفلاسفة الكبار الذين أحدثوا تغييرا في طرق التفكير، وعلى سبيل المثال الفيلسوف الإنجليزي هيوم والفيلسوف الألماني كنط في ثورتيهما الفلسفية لتغيير طرق التفكير، كان مرجعهما من خارج حقل الفلسفة التقليدي، وهو العلوم الرياضية والطبيعية، وهو ما سبق تأكيده في كتابي (العقل وما بعد الطبيعة) الصادر عام 1990 من القرن الماضي.
* هل يمكن تطوير العقل الديني بدون تطوير اللغة؟
جمود اللغة أحد أهم أسباب عجزنا عن تطوير الخطاب الديني؛ فكيف يمكنك التعبير عن فكر ديني جديد بمفردات وأساليب تعبير قديمة؟ وكيف يمكن لخطاب ديني أن ينمو وهو يعيش في قوقعة لا تنمو؟ هذا أيضا ما يجعلني أؤكد -مجددا- أن المؤسسات التقليدية لا يمكن أن تطور الخطاب الديني لأنها تستخدم اللغة القديمة بكل مفاهيمها، وتعيش في الصَدَفة (القوقعة) من داخلها، وهذه الصَدَفة نفسها لا تنمو!
إن تطوير اللغة هو أحد أهم أركان الدخول في عصر جديد، ويجب أن تطال عمليات تغيير طرق التفكير تطوير اللغة؛ لأن اللغة لها دور في نمو المفاهيم والتصورات ومن ثم السلوك. ومنهجية فهم اللغة تنعكس على الفكر مثلما ينعكس الفكر على منهجية فهم اللغة. هنا نعود مرة أخرى للعلاقة الديالكتيكية المتبادلة بين اللغة والفكر. والدليل على هذا ما تجده عند أهل الحَرف الذين يفهمون الكلام فهما حرفيا جامدا طبقا لمعانيه القديمة على عكس أهل المعاني الذين يفهمون الكلام وفق مقاصده وسياقه. وأتصور أن أحد أهم أسباب التطرف والتشدد، هو طريقة فهم اللغة عند التيار المتشدد الذي يقف عند حدود الحرف وظاهر اللغة -كما تشكلت قديما – وعدم الالتفات إلى السياق التاريخي والاجتماعي للغة، فضلا عن عدم الالتفات إلى المقاصد. وهم علاوة على ذلك يعيشون في بيت قديم هو اللغة القديمة، ومن الطبيعي إذن أن يفكروا ويستدلوا طبقا لمنطقها. ولِمَ نذهب بعيدا في التحليل النظري؛ فيكفيك أن تقرأ لهم أو تراقب طريقتهم في الحديث، فسوف تعرف على الفور أنهم يعيشون خارج التاريخ المعاصر، ولم يدركوا من الحداثة إلا قشورها، بل سوف تشعر بالاغتراب تجاه كلامهم وتجاه نمط تفكيرهم، وسوف توقن أن جسور الحوار منقطعة لأنها مع أناس من عالم آخر. ولذلك سوف تجدهم يكفرون أي شخص يعيش في عالم اللغة المخالفة لهم!
إننا لو ظللنا نعيش في النسخة القديمة من اللغة بخاصة أو من التراث بعامة – وهذا هو حالنا الآن- فسوف يستمر توقف نمونا الفكري في الوجود. وإذا كان وجودنا لابد أن ينمو ويتطور فلابد من تطوير الصدفة التي تحتويه، فبدون نمو الصَدَفة (القوقعة) لن ينمو الكائن الحي بداخلها. واللغة هي هذه الصَدَفة؛ إنها مسكن الوجود الإنساني الذي تحدث عنه مارتن هيدجر.
ولابد من التأكيد على رفض موقف الذين يقدسون التراث كله، وفي الوقت نفسه لابد من التأكيد على رفض موقف الذين يهينون التراث كله. إن التراث يشتمل على الإيجابي والسلبي، ويتضمن الحي والميت من المكونات. ولذا فإننا لا ندعو إلى القطيعة الابستمولوجية التامة مع اللغة العربية بخاصة أو التراث بعامة، ولا مع جهود السابقين، بل ندعو إلى علاقة ابستمولوجية جدلية، تقوم على الديالكتيك بين التراث والواقع المعاصر والمنهجيات المعاصرة. نعم ندعو إلى تجاوز للماضي، لكنه ليس التجاوز بالمعنى المتداول المعروف الذي يعني الإلغاء والحذف، بل الذي يعني التضمين للعناصر الإيجابية والحية من التراث مع المتغيرات والعلوم الجديدة والوصول إلى مركب جديد يعيد مجد هذه الحضارة العظيمة وفق شروط عصر العلوم الكونية دون الخروج من الهوية الصافية.
* الدراسات البينية وعدم النظر إلى علوم الدين كجزر منعزلة
لن يتحقق الخطاب الديني الجديد بالصورة المأمولة إلا من خلال الدراسات البينية التي يساهم فيها أكثر من اتجاه علمي، في إطار العلوم الاجتماعية والإنسانية. فالدراسات البينية هي التي تحقق الفهم المتكامل والشامل للظواهر التي تتم دراستها.
وعلى سبيل المثال من الضروري توظيف النظريات القانونية الحديثة في تطوير أحكام الفقه، مثل توثيق الطلاق على غرار توثيق الزواج طبقًا لنظرية الأشكال القانونية المتوازية، لأن انعقاد وإثبات الطلاق عن طريق توثيقه منطقي في ضوء نظرية الأشكال القانونية المتوازية، فما يتم وفق شكل وإجراء لابد أن يتم انهاؤه بالشكل والإجراء نفسه. و هذا الرأي نقدمه في مقابل باقي الآراء، لكن الأمر في نهايته يحتاج إلى حوار مجتمعي جديد حتى الوصول الى توافق مجتمعي.
ويبدو أن الخطوة الأولى للدراسة العلمية الجادة تتمثل في الوقوف على أهم الأخطاء المنهجية والإبستمولوجية في البحث في علوم الدين.
* بعض الأخطاء المنهجية والإبستمولوجية في البحث في علوم الدين:
1. الخلط بين المقدس والبشري
2. علم التفسير القديم يقوم على الصواب الواحد، وليس على تعددية المعنى وتعددية الصواب
3. سيادة العقائد الأشعرية، فأنا مسلم ولست أشعريا، ومحمد صلى الله عليه وسلم لم يكن أشعريا.
4. الخلط بين الإسلام والموروثات الاجتماعية
5. عدم التمييز الابستمولوجي بين قطعي الدلالة من النصوص وظني الدلالة (تعددية المعني والصواب)
مثل حديث الرسول صلي الله عليه وسلم القائل ” أن لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة” (متفقٌ عليه، واللفظ للبخاري)،
6. عدم التمييز الابستمولوجي بين اللاتاريخي (الثابت) والتاريخي (المتغير) في الأحكام الشرعية
7. عدم التمييز بين الإسلام والمسلمين
8. غياب العقلانية النقدية
9. الرؤية الأحادية للإسلام
10. 10.عدم التمييز بين الأحاديث النبوية المتواترة والأحاديث الآحاد
وهنا يثار تساؤل مهم هو: لماذا كل هذا الخلط ولماذا كل هذه الأخطاء المنهجية؟
تتمثل الإجابة عن هذا السؤال فيما يلي:
1. إن بعض من يقومون بكتابة الخطاب الديني التقليدي لديهم عقول مغلقة تقوم على منهجية نقلية، وليس على منهجية نقدية.
2. النظرة الأحادية والمتعصبة، وعدم القدرة على الحوار الإيجابي المنتج.
3. دور العلم الاقتصادي في دراسة الظاهرة الدينية؛ فمن وجهة نظري، أن الخطاب الديني التقليدي، هو إنتاج لنمط الاقتصاد الرعوي؛ لأننا حتى الآن في العالم العربي لانزال نعيش في نمط الاقتصاد الرعوي المشكل للحياة والمحدد لأنماط العلاقة والتفاعل.
وتوجد عوامل وجوانب أخرى مفصلة في كتابنا (نحو تأسيس عصر ديني جديد).