أصدر مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار بمجلس الوزراء، تحليلاً معلوماتياً بعنوان “إعادة تشكيل خريطة التجارة العالمية”، مشيراً إلى أن مصطلح “إعادة تشكيل التجارة” أصبح من المصطلحات الرائجة، ففي عام 2023، نجحت المكسيك في أن تصبح أكبر شريك تجاري للسلع للولايات المتحدة، وشهدت تجارة فيتنام مع الصين والولايات المتحدة ارتفاعا، وتحولت واردات الطاقة في الاقتصادات الأوروبية بشكل كبير بعيدًا عن روسيا، في حين ازدهرت واردات بعض المنتجات من الصين، مثل السيارات الكهربائية.
كذلك فقد ارتفع متوسط التعريفات الجمركية على تجارة السلع بين الصين والولايات المتحدة بما يتراوح بين ثلاثة وستة أضعاف منذ عام 2017، وفي أعقاب الأزمة الروسية الأوكرانية، فرض الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة والعديد من اللاعبين الآخرين عقوبات على روسيا، وانسحبت أغلبية كبيرة من الشركات الأوروبية واليابانية والأمريكية من روسيا أو قلصت عملياتها هناك، كما أن إعادة توجيه ممرات الشحن بسبب أزمة البحر الأحمر التي بدأت في ديسمبر 2023 لا تؤدي فقط إلى تكاليف إضافية وتأخير وتعقيدات أمنية، بل لديها أيضًا القدرة على خلق موجات صدمة بعيدة المدى تتجاوز المواقع المباشرة المتضررة. وعلى نطاق أوسع، فإن عدد القيود التجارية العالمية الجديدة كل عام يتزايد بشكل مطرد، من حوالي 650 قيدًا جديدًا في عام 2017 إلى أكثر من 3000 في عام 2023.
واستعرض مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار في تحليله أبرز العوامل التي تعيد تشكيل خريطة التجارة العالمية:
1- التحولات الجيوسياسية: فمنذ ارتفاع متوسط التعريفات الجمركية على تجارة السلع بين الصين والولايات المتحدة عام 2017، بدأت كلتا الدولتين تبحث عن بدائل تجارية بعيدًا عن الأخرى، فقد قامت الولايات المتحدة بتنويع حصتها من الواردات بشكل كبير بعيدًا عن الصين، واكتسبت فيتنام على وجه الخصوص وغيرها من الاقتصادات الآسيوية حصة. وفي الوقت نفسه، اكتسبت المكسيك أيضًا حصة من واردات الولايات المتحدة.
وأشار التحليل إلى انخفاض حصة الصين من واردات السلع المصنعة الأمريكية من 24% إلى 15% بين عامي 2017 و2023. وخلال هذه الفترة، كانت الإلكترونيات هي القطاع الذي شهد أكبر انخفاض في الحصة، من حوالي 50% إلى حوالي 30%. وشهدت فيتنام الزيادة الأكثر وضوحا في حصة الواردات الأمريكية في هذا القطاع. وكثيرًا ما عكست هذه التحولات تأثير زيادة التعريفات الجمركية على الواردات من الصين.
كما أصبحت المكسيك أكبر شريك تجاري للولايات المتحدة على مستوى الواردات في عام 2023. وكانت أكبر مكاسبها في قطاعي الزراعة ومعدات النقل، وهي القطاعات التي تعتبر فيها الصين شريكًا تجاريًا أقل أهمية للولايات المتحدة. على سبيل المثال، ارتفعت حصة المكسيك من واردات معدات النقل الأمريكية من 26 إلى 32% بين عامي 2017 و2023، لتستحوذ على جزء من حصة اليابان، التي خسرت خمس نقاط مئوية من حصة واردات معدات النقل الأمريكية في هذه الفترة. ومع ذلك، ظلت حصة الصين في هذا القطاع مستقرة عند حوالي 4% إلى 5%.
وبالنسبة للصين، فقد بدأت تعمل على تسريع الجهود الرامية إلى بناء بنية تجارية بديلة عن نفوذ الولايات المتحدة وتتمحور حول العالم النامي، وتتمثل استراتيجية بكين الرئيسة في الاستفادة من العلاقات مع “الجنوب العالمي” التي تم تعزيزها من خلال مبادرة الحزام والطريق (BRI) البالغة قيمتها تريليون دولار، وهو برنامج استثماري تم إطلاقه في عام 2013 ويضم أكثر من 140 دولة في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، وقد تجاوزت صادرات الصين إلى الدول العشر الأعضاء في رابطة “آسيان” -وجميعها مدرجة في مبادرة الحزام والطريق- الصادرات إلى الولايات المتحدة في العام المنتهي في أكتوبر 2023. وقد تجاوزت صادرات الصين إلى دول مبادرة الحزام والطريق صادرات الصين إلى كل من الولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي، واليابان مجتمعة.
وأضاف التحليل أن أكبر نجاح حققته الصين حتى الآن هو الانضمام لاتفاقية (الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة)، التي تضم 15 دولة، وهي عبارة عن اتفاقية تجارة حرة إقليمية كبيرة، دخلت حيز التنفيذ في عام 2022، ويساهم أعضاء الاتفاقية بنحو 30% من الناتج المحلي الإجمالي للعالم، ولكن الصين لن تكتفي باتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة الإقليمية؛ فهي بدأت تتفاوض في الوقت الحالي على (10) اتفاقيات تجارة حرة، والتي، باستثناء تلك التي تُعد تحديثات لاتفاقيات التجارة الحرة التي يتم العمل بها بالفعل، ستمثل حوالي 4.3% أخرى من صادرات الصين للعالم. ومن جانب آخر، يتم الآن إعداد دراسات جدوى لـ 8 اتفاقيات تجارة حرة أخرى، والتي في حالة إبرامها سوف تمثل ما يقرب من 2.6% إضافية من الصادرات الصينية إلى العالم.
وأيضًا، تمثل دول مجلس التعاون الخليجي أهمية استراتيجية بالنسبة للصين، فالأمر لا يقتصر على صادرات صينية بقيمة 112.5 مليار دولار إلى دول المنطقة، في الأشهر الـ 12 المنتهية في أكتوبر 2023 فقط، بل إنها تحصل على حوالي 40% من وارداتها النفطية من المنطقة، وعلاوة على ذلك، تساعد الشركات التكنولوجية الصينية مثل شركة هواوي العديد من دول مجلس التعاون الخليجي في إنشاء البنية التحتية الأساسية.
كما تركز الصين بشكل خاص على القارة الإفريقية، وتُعد اتفاقية التجارة الحرة للقارة الإفريقية (AfCFTA) عام 2018، والتي تضم 54 دولة إفريقية، فرصة كبيرة للصين. لم تعلن الصين عن رغبتها في الانضمام إلى الاتفاقية، لكن مكانة الصين كأكبر شريك تجاري لدول القارة ككل، أدى إلى التوافق القوي والكبير مع دول المجموعة. كما أن الصين تقدم الدعم لأمانة منطقة التجارة الحرة القارية الإفريقية. وفي عام 2021، وقعت وزارة التجارة الصينية اتفاقية لتكوين فريق خبراء في منطقة التجارة الحرة القارية الإفريقية، وذلك للتعاون في قضايا مثل: التجارة الرقمية، والإجراءات الجمركية، وحقوق الملكية الفكرية، وغيرها.
2- الصراعات الإقليمية، حيث يتأثر مشهد التجارة والاستثمار العالميين بشكل كبير بالصراعات الإقليمية، حيث تكون مناطق مثل الشرق الأوسط وأوروبا الشرقية في أحيان كثيرة في بؤرة التوترات الجيوسياسية. ولا تترتب على هذه الصراعات تكاليف بشرية واجتماعية مدمرة فحسب، بل لها أيضا آثار اقتصادية عميقة، تؤثر على سلاسل التوريد العالمية، وأسعار السلع الأساسية، وأنماط الاستثمار.
وقد استعرض المركز خلال تحليله عدد من هذه الصراعات شملت:
أولاً: الأزمة الروسية الأوكرانية:
حيث انخفضت التجارة بين الاتحاد الأوروبي وروسيا بنحو 80% بين فبراير 2022 وسبتمبر 2023، مما يعكس انقطاع العلاقات بعد الأزمة الروسية الأوكرانية. وقد انخفضت تجارة المملكة المتحدة مع روسيا بأكثر من 95%. وأصبح إيجاد إمدادات بديلة من موارد الطاقة ضرورة ملحة، وقد حدث ذلك بسرعة كبيرة. على سبيل المثال، انخفضت حصة روسيا من واردات ألمانيا من الغاز الطبيعي من حوالي 35% في يناير 2022 إلى أقل من 1% في عام 2023، وفي قطاعات التصنيع، تحولت صادرات ألمانيا بعيدًا عن روسيا، وفي كثير من الأحيان، بعيدًا عن الاقتصادات المتقدمة في أوروبا، مع زيادة حصة الولايات المتحدة والاقتصادات الأوروبية النامية. كما اتجهت واردات ألمانيا أيضا إلى التحول بعيدا عن الاقتصادات الصناعية الكبيرة في أوروبا نحو الاقتصادات الأصغر حجما، والنامية غالبا، في أوروبا ــ وخاصة بولندا ــ فضلا عن الصين.
ثانياً: الصراع في الشرق الأوسط:
أثرت الهجمات الأخيرة على السفن التجارية في البحر الأحمر بشدة على حركة الشحن العالمية، مما زاد من التحديات الجيوسياسية والمتعلقة بالمناخ التي تؤثر سلبًا على حركة التجارة العالمية وسلاسل التوريد. كما تؤدي الأزمة في البحر الأحمر إلى تزايد الاضطرابات في البحر الأسود بسبب الأزمة في أوكرانيا، والتي أدت إلى تغييرات في طرق تجارة كل من النفط والحبوب، إلى جانب ذلك، تواجه قناة بنما، تحديًا منفصلًا، وأثار تضاؤل مستويات المياه المخاوف الخاصة بمرونة سلاسل التوريد العالمية وذلك على المدى الطويل.
3- سياسات التخفيف من آثار تغير المناخ: أشار التحليل إلى إن العدد الكبير لسياسات التخفيف من آثار تغير المناخ والتي تشمل أهداف الوصول بصافي الانبعاثات إلى الصفر، والدعم الأخضر، يعيد تشكيل تدفقات التجارة العالمية بشكل كبير، فعلى سبيل المثال، آلية الاتحاد الأوروبي لتعديل حدود الكربون تعاقب الصادرات ذات المحتوى الكربوني المرتفع إلى الاتحاد الأوروبي، وذلك لتشجيع الإنتاج النظيف، وتحقيق الأهداف المناخية للكتلة، وسيعمل التحول نحو نظام بيئي واجتماعي أكثر إلزامًا، على إعادة تشكيل وتكوين سلاسل الإمداد العالمية، والتي تعتبر بالغة الأهمية لكل من العمل الإنمائي، وخلق فرص عمل، والدول التي لا تنجح في الحد من الانبعاثات الكربونية في عمليات الإنتاج ستخاطر بخسارة وفقدان التجارة لصالح الدول الأكثر مراعاة للبيئة.
وتظهر دراسات البنك الدولي أن هذه السياسات والقرارات يمكن أن تؤثر بشكل غير متناسب على الدول منخفضة ومتوسطة الدخل، مما يؤدي إلى انخفاض حجم تجارتها، مقارنة بالاقتصادات مرتفعة الدخل.
وعلى سبيل المثال، يظهر المؤشر الجديد الخاص بالبنك الدولي (مؤشر التعرض لآلية الاتحاد الأوروبي لتعديل حدود الكربون) أن دولة زيمبابوي هي الدولة الأكثر عرضة لخطر تطبيق هذه الآلية، ويعود ذلك إلى حد كبير إلى صادرات زيمبابوي الضخمة من السبائك الحديدية، كثيفة الانبعاثات الكربونية، إلى الاتحاد الأوروبي. وفي موزمبيق أيضًا، يندرج نحو 20% من صادرات الدولة ضمن إطار آلية الاتحاد الأوروبي لتعديل حدود الكربون، مما يؤثر على الاقتصاد الوطني لموزمبيق، خاصة مع توجيه 97% من صادراتها من الألومنيوم إلى دول الاتحاد الأوروبي.
4- تغيير التحالفات والاتفاقيات التجارية، حيث ذكر التحليل أنه في المشهد الديناميكي للتجارة العالمية، تعمل التحالفات المتغيرة والاتفاقيات التجارية المتطورة على إعادة تشكيل أنماط التجارة الدولية، وتعمل مبادرات مثل الاتفاقية الشاملة والتقدمية للشراكة عبر المحيط الهادئ (CPTPP) ومنطقة التجارة الحرة القارية الإفريقية (AfCFTA) على إنشاء كتل تجارية جديدة، مما يشير إلى تحول في كيفية تعامل البلدان مع بعضها البعض اقتصاديا. وتعكس هذه التطورات إعادة التنظيم الاستراتيجي والتكيف مع البيئة الجيوسياسية المتغيرة، مع ما يترتب على ذلك من آثار كبيرة على ديناميكيات التجارة العالمية.
واستعرض المركز في تحليله بعض الاتفاقيات ومنها:
أولاً: الاتفاقية الشاملة والتقدمية للشراكة عبر المحيط الهادئ (CPTPP)، إن اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ، هي اتفاقية تجارية تاريخية بين العديد من الدول المطلة على المحيط الهادئ، بما في ذلك اليابان وكندا وأستراليا والمكسيك. وتهدف إلى تعميق العلاقات الاقتصادية بين هذه الدول، وخفض التعريفات الجمركية وتعزيز التجارة لتعزيز النمو. تتناول الاتفاقية أيضًا قضايا شاملة مثل معايير العمل، وحماية البيئة، وحقوق الملكية الفكرية، مما يضع معيارًا جديدًا لاتفاقيات التجارة العالمية.
ولا تكمن أهمية اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ في تأثيرها الاقتصادي فحسب، بل وأيضًا في آثارها الاستراتيجية. وهو يمثل جهدًا تبذله الدول الأعضاء لموازنة النفوذ الاقتصادي المتنامي للصين في منطقة آسيا والمحيط الهادئ والدعوة إلى نظام تجاري قائم على القواعد. ومن خلال إنشاء كتلة كبيرة للتجارة الحرة تمثل جزءًا كبيرًا من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، تعمل اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ على إعادة تشكيل التدفقات التجارية وأنماط الاستثمار، وتشجيع الشركات على إعادة تنظيم استراتيجياتها للاستفادة من الفرص الجديدة في أسواق الدول الأعضاء.
ثانياً: منطقة التجارة الحرة القارية الإفريقية (AfCFTA)، حيث تمثل منطقة التجارة الحرة القارية الإفريقية علامة بارزة في التكامل الاقتصادي الإفريقي، وتهدف إلى إنشاء سوق واحدة للسلع والخدمات عبر 54 دولة، مما يجعلها أكبر منطقة تجارة حرة في العالم، وذلك من حيث عدد الدول. ويسعى الاتفاق إلى تعزيز التجارة البينية الإفريقية من خلال إلغاء الرسوم الجمركية على معظم السلع، وتسهيل حركة رؤوس الأموال والأفراد، وتمهيد الطريق أمام اتحاد جمركي قاري.
وأضاف التحليل إن إمكانات منطقة التجارة الحرة القارية الإفريقية لتحويل الاقتصاد الإفريقي هائلة. فمن خلال خفض الحواجز التجارية ومواءمة القواعد التنظيمية، يمكن أن يؤدي ذلك إلى زيادة التجارة البينية الإفريقية بشكل كبير، وتحفيز النمو الاقتصادي، وانتشال الملايين من الفقر، علاوة على ذلك، تعمل منطقة التجارة الحرة القارية الإفريقية على تعزيز مكانة إفريقيا كشريك تجاري عالمي ووجهة استثمارية من خلال إتاحة الوصول إلى سوق موحدة تضم أكثر من 1.3 مليار شخص. ويمكن لهذه السوق الموحدة أن تجتذب الاستثمار الأجنبي، وتدفع عجلة التصنيع، وتعزز الابتكار في جميع أنحاء القارة.