نشر المعهد تقريراً حول آثار فيروس كورونا على الاقتصادات بمنطقة الشرق الأوسط ودور الولايات المتحدة في دعم تلك الاقتصادات ، مؤكداً أن التحديات التي تواجه الشرق الأوسط الغارق أساساً في أزمات محلية وإقليمية متعددة تفاقمت مع ظهور فيروس كورونا المستجد والانخفاض الحاد في أسعار النفط ، مضيفاً أنه نظراً للضغوط الإضافية الهائلة التي يلقيها الفيروس على كاهل حكومات المنطقة من المرجح أن يزداد الوضع خطورة في هذه الدول ، لا سيما من الناحية الاقتصادية ، لذلك لا بد من أن يتوقع الخبراء الاستراتيجيون في السياسة الخارجية أن تواجه حكومات الشرق الأوسط صعوبات أكبر من أجل حماية سبل عيش شعوبها واقتصاد بلدانها بعد انحسار خطر فيروس كورونا ، وبالتالي على الولايات المتحدة أن تبدأ رسم مسار نحو اعتماد سياسة خارجية تعاونية تنطوي على مساهمة الحلفاء في الخارج دون إهمال القيم التي تهم الشعب على الأرض .. وفيما يلي نص التقرير :
حافظت الولايات المتحدة ربما أكثر من أي دولة أخرى على مستوى كبير من الانخراط في الشرق الأوسط ، سواء في المجال العسكري أو المالي أو الثقافي ، وعليه تحتل الولايات المتحدة مكانة أساسية تخولها قيادة الجهود التعاونية الضرورية للتعافي ، خاصة في أوساط الدول التي تواجه مستقبلًا قاتماً بسبب الوباء وتعاني الدول على غرار الأردن ولبنان تحديداً لتلبية حاجات مواطنيها وأعداد اللاجئين الكبيرة بالشكل المناسب وسط قيود يفرضها اقتصادها المتعثر أساساَ ، ومن شأن تداعيات الوباء أن تفاقم حتماً هذه التحديات القائمة ، وعلى نحو مماثل سيهرب أولئك الذين يعيشون في الفقر وفي مناطق النزاع من بيوتهم وبلدانهم حين تتأزم الظروف مما يؤدي إلى موجة كبيرة جديدة من المهاجرين ستكون الحكومات غير مجهزة للتعامل معها .
الدول العربية التي كانت تتمتع تقليدياً بتحصينات مالية قد تتأثر بذلك الأمر ، فدول الخليج التي حافظت الولايات المتحدة على علاقات وطيدة معها تاريخياً تقع تحت وطأة أزمتين متزامنتين ألا وهما ( الانهيار العالمي لأسعار النفط / فيروس كورونا المستجد ) ، وقد تلقت اقتصاديات الدول الخليجية المنتجة للنفط صفعة من جراء هبوط أسعار النفط ، مما أرغم كثير من الدول على تقليص إنفاقها على الخدمات الاجتماعية التي تقدمها لمواطنيها بشكل كبير .
في حين تفوق جاهزية عدد كبير من دول الخليج جاهزية دول متعددة مجاورة لها لمواجهة هذه الضغوط الناشئة لا بد من إدراك احتمال حدوث تغيير دائم في الوضع الراهن الجغرافي السياسي للمنطقة .. ستواجه دول الخليج هذه التي اعتُبرت فيما مضى وإلى حد بعيد دعامة المنطقة المالية صعوبة في مواصلة تقديم المستوى عينه من الدعم المالي للدول على غرار ( لبنان / اليمن / الضفة / غزة / المغرب / الأردن ) ، فقد أضافت هذه الدول الممولة إلى المساعدات المقدمة من الولايات المتحدة في أعقاب الربيع العربي بطريقة ساهمت في التخفيف من التحديات الاقتصادية الأصعب وتوفير محفزات مالية بديلة عن إيران ، ولكن من المستبعد تطبيق هذه الاستراتيجية على نحو مماثل في المستقبل .
إن حالت الأزمات الاقتصادية التي تعصف بالخليج دون استمراره في توفير المساعدة الإقليمية قد يخلّف ذلك تأثيرات تطال مختلف أرجاء المنطقة ، وبالتالي على الولايات المتحدة أن تدرك أنه لا يمكن التعويل على هذا الأثر المتنامي بعد الآن ، كذلك يجب أن تدعم الولايات المتحدة الخليج عسكرياً إذ من المهم أن تتمتع المنطقة بأمن معزز لضمان تخصيص الموارد المالية والدعم البشري.
قبل انتشار وباء كورونا بدا وكأن الولايات المتحدة تتخلى عن دورها الناشط في المنطقة ، ففي وقت خفضت فيه إدارة ” ترامب ” الوجود الأمريكي في الشرق الأوسط لجأت دول كثيرة إلى قوى عالمية أخرى للحصول على دعم مالي ، وأثار استعداد الصين لتأدية دور الدعامة الاقتصادية المخاوف بشكل خاص ، ولفهم المحفزات المالية التي دفعت بالدول إلى اللجوء إلى الصين ، على صناع السياسة في الولايات المتحدة أن يدركوا أن الحد من الانخراط في المنطقة سيفتح المجال لبسط النفوذ من مصادر أخرى.
يسلط توقيع مذكرات تفاهم مع (17) دولة من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بشأن مبادرة الحزام والطريق الضوء على كيفية قيام الصين بتوسيع دورها في المنطقة ، وقد أملت الصين في تعزيز دورها كالمستثمر الأكبر في المنطقة من خلال مشروع مبادرة الحزام والطريق الذي تقدر قيمته بتريليون دولار وواصلت تصوير نفسها كأنها شريك موثوق في الشرق الأوسط من خلال التعهد بمساعدة المنطقة مالياً دون التدخل في الشئون المحلية ، وهذا وعد يروق لقادة الشرق الأوسط الذين يساورهم القلق إزاء ما يعتبرونه تدخلًا في شئونهم الداخلية من قبل الولايات المتحدة ، وتهتم الصين بشكل خاص بالحفاظ على هذه العلاقة ، باعتبارها ثاني أكبر دولة مستهلكة للنفط بعد الولايات المتحدة.
حالياً يوفر الشرق الأوسط نحو نصف واردات النفط الصينية ، ومن المرجح أن يزداد اعتماد الصين على هذه المنطقة بناءً على تقديرات الوكالة الدولية للطاقة بأن الصين ستضاعف وارداتها من الشرق الأوسط بحلول عام 2035 ، وبهدف وضع حاجات الصين من الطاقة في إطار واضح يبين الهبوط غير المسبوق للطلب على النفط السرعة التي يمكن أن تطال بها التغيرات الاقتصادية في الصين باقي دول العالم ، ومع أخذ هذه المتغيرات في الحسبان يسلط اعتماد الصين على الطاقة الخارجية والتهديد المستمر الذي يطرحه تغير المناخ الضوء على ضرورة معالجة مسألة أمن الطاقة باعتبارها من أبرز الأولويات الدولية ، وفي حال لم تعدل الولايات المتحدة انخراطها في المنطقة في هذه الأوقات المهمة هناك كثير من القوى الأخرى ليس الصين فحسب وإنما روسيا وإيران أيضاً أظهرت استعداداً للاضطلاع بأدوار جديدة .
التوصيات
– ثمة سبل مبتكرة يمكن للولايات المتحدة اللجوء إليها من أجل الحفاظ على علاقاتها في المنطقة وإدارة تحدياتها المحلية الخاصة في الوقت عينه ، ومن المرجح أن تكتسي المصالح الأمريكية في الشرق الأوسط أهمية ثانوية عام 2020 في ظل تعامل الحكومة مع مسائل الصحة العامة والتداعيات الاقتصادية لفيروس كورونا المستجد ، وعليه سيكون من الضروري جداً أن يلعب القطاع الخاص الأمريكي دوراً أكبر في التعاون مع شركاء الولايات المتحدة في المنطقة.
– يمكن للحكومة أن تدعم مساعي القطاع الخاص هذه من خلال تشكيل لجنة جديدة مؤلفة من كبار الممثلين عن القطاعيْن العام والخاص تديرها وزارة الخارجية والبيت الأبيض بشكل مشترك نظراً لارتباط هذه الاستثمارات الاستراتيجية مباشرة بمصالح الأمن القومي الأمريكية ، ويتعين على اللجنة دعوة نظرائها الأجانب من القطاعيْن لإنشاء شبكة تعاونية للعمل على تحقيق الهدف المشترك المتمثل بدعم المساعي الإقليمية الرامية إلى التعافي من الوباء العالمي على المستوى الصناعي ، ولا بد من أن تنطوي الخطوة التالية على إنشاء بعثة من أعضاء اللجنة تزور مراكز الإنتاج في أرجاء الشرق الأوسط ، فقد تركز في الماضي الاستثمار على الاتفاقيات الثنائية التي تشمل تواصلًا مباشرًا مع حكومات أجنبية ، وربما حان الوقت لكي تدعم الولايات المتحدة الصناعات في المنطقة ، حيث لهذه الخطوة فائدة متبادلة.
– في وقت تشهد فيه كثير من القطاعات في المنطقة تراجعاً من المهم أن تحظى بدعم استراتيجي ، ومن المستبعد أن يتعافى قطاع النقل بشكل فوري ، لذا قد يعتبر الكثيرون أنه استثمار غير نموذجي وغير حكيم ، إلا أنه يتعين على الولايات المتحدة العمل مع حلفائها في المنطقة لضمان حفاظ شركائنا على سيطرتهم على هذه القطاعات والمنشآت من خلال العمل مع مجالس عمل ثنائية وغرف ووزارات تجارة ومن خلال إعداد مبادرات جديدة أيضاً .
– كما يتعين على عمالقة التصنيع في الولايات المتحدة العمل مع حلفائها في الشرق الأوسط للمساعدة على تحسين قدراتهم التصنيعية لبناء المصانع ، وتُعتبر (الجزائر / السودان / مصر / السعودية) مناسبة بشكل خاص لتنفيذ مشاريع التطوير نظراً إلى القوى العاملة المحتملة الكبيرة لديها ومواقعها الاستراتيجية وتوفر رأس المال البشري لدعم هذه الصناعات الكبيرة ، وهذه صفات سبق أن أثبتتها الاستثمارات الصينية ، وعليه ستساعد هذه المساعي على محاربة البطالة التي تشكل أحد أبرز التحديات في المنطقة ، الأمر الذي سيساهم في تعزيز الاستقرار في مختلف أرجاء شمال أفريقيا والشرق الأوسط ، كما ستمكن الشراكات الأمريكية المتزايدة المنطقة من تقليص اعتمادها على البضائع الصينية وضمان تجنيبها الترابط القسري من حيث الصادرات والطاقة.
– على الولايات المتحدة إحراز تقدم لجهة ترابط الموضوعين المتباعدين في المنطقة (الثورة غير المنتهية من جهة / تحديات الحوكمة من جهة أخرى) ، كما يجب وضع سياسة خارجية متماسكة ذات أهداف واضحة تدعمها سياسة تركز على الاستقرار الاقتصادي والنمو في منطقة أغلبية سكانها من الشباب التواقين إلى اغتنام الفرص.
– تمثل الولايات المتحدة جسراً بين شعوب مختلفة ، ورغم عدم كونها مثالية ، يمكن لها الارتقاء بالحكومات التي تتعاون معها ، وعلى الولايات المتحدة توحيد المجتمعات والحكومات ، ليس لأغراض أمنية فحسب ، بل لتحقيق الازدهار ، وينبغي اعتبار تقلبات الوضع الراهن كنقطة تحول كبيرة في سياسة الولايات المتحدة الخارجية ، إذ تخلص هذه الأخيرة إلى أن الحلفاء الأقوياء في الشرق الأوسط لا يشكلون تحدياً أو خطراً كبيراً بل يمثلون فرصة لتعزيز دفاعاتنا ضد التهديدات المشتركة.