إن مصلحة السكة الحديد أنشأت بقليوب زاوية للصلاة، وإن خطيب هذا المسجد منع المصلين يوم الجمعة من صلاة سنة الجمعة القبلية مستدلا بأحاديث رواها السائل محتجا بأن الإمام إذا صعد على المنبر يحرم على المصلين القيام للصلاة وهو يصعد على المنبر قبل الأذان، وإن إمام مسجد آخر بالبلدة المذكورة قال إن سنة الجمعة سنة مؤكدة، ولا يصح لأحد أن يتركها واحتج بأحاديث رواها السائل أيضا عنه. وطلب بيان الحكم الشرعي في هذه المسألة عند الحنفية والشافعية والمالكية حتى يكون الناس على بينة من أمور دينهم.
يجيب الشيخ حسن مأمون – مفتى الجمهورية الأسبق – :
إن مذهب الحنفية -كما جاء في الفتح والبحر وغيرهما من كتب المذهب- أن الإمام إذا خرج يوم الجمعة ترك الناس الصلاة والكلام حتى يفرغ من خطبته عند أبي حنيفة رحمه الله، وقال صاحباه: لا بأس بالكلام إذا خرج الإمام قبل أن يخطب وإذا نزل قبل أن يكبر؛ لأن الكراهة للإخلال بفرض الاستماع، ولا استماع هنا بخلاف الصلاة؛ لأنها قد تمتد، واستدل الإمام أبو حنيفة -رحمه الله- بقوله عليه السلام: ((إذا خرج الإمام فلا صلاة ولا كلام)). من غير فصل، ولأن الكلام قد يمتد طبعا فأشبه الصلاة, وقال صاحب الفتح تعليقا على ذلك: “وأخرج ابن أبي شيبة في مصنفه عن علي وابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم كانوا يكرهون الصلاة والكلام بعد خروج الإمام، والحاصل أن قول الصحابي حجة، فيجب تقليده عندنا إذا لم ينفه شيء آخر من السنة ولو تجرد المعنى المذكور عنه وهو أن الكلام يمتد طبعا أي يمتد في النفس فيخل بالاستماع، أو أن الطبع يفضي بالمتكلم إلى المد فيلزم ذلك، والصلاة أيضا قد تستلزم المعنى الأول فتخل به. ثم قال بعد ذلك: وأخرج الستة عن أبي هريرة – رضي الله عنه- عنه -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة والإمام يخطب: أنصت. فقد لغوت)).
وهذا يفيد بطريق الدلالة منع الصلاة وتحية المسجد؛ لأن المنع من الأمر بالمعروف وهو أعلى من السنة وتحية المسجد، فمنعه منهما أولى… إلخ.
وجاء في البحر شارح الكنز بعد أن روى أثر ابن أبي شيبة السابق: “فالحاصل أن الإمام إذا كان في خلوة فالقاطع انفصاله عنها وظهوره للناس، وإلا فقيامه للصعود، وأطلق في الصلاة فشمل السنة وتحية المسجد، ويدل عليه حديث: ((إذا قلت لصاحبك والإمام يخطب يوم الجمعة: أنصت، فقد لغوت)). فإنه يفيد بطريق الدلالة منعهما بالأولى؛ لأن المنع من الأمر بالمعروف وهو أعلى من السنة وتحية المسجد، وما في صحيح مسلم من أن قوله عليه السلام: ((إذا جاء أحدكم والإمام يخطب فليركع ركعتين وليتجوز فيهما)) فمعمول على ما قبل تحريم الكلام فيها دفعا للمعارضة، وجوابهم بحمله على ما إذا أمسك عن الخطبة حتى يفرغ من صلاته، كما أجابوا به في واقعة سليك الغطفاني فغير مناسب لمذهب الإمام؛ لما علمت أنه يمنع الصلاة بمجرد خروجه قبل الخطبة إلى أن يفرغ من الصلاة”. هذا هو مذهب الحنفية.
وأما مذهب الشافعية كما جاء في حواشي تحفة المحتاج بشرح المنهاج تعليقا على قول المنهاج في باب الجمعة: “ويسن صلاة ركعتين… إلخ وكره تحريما بالإجماع تنفل أحد من الحاضرين بعد صعود الخطيب على المنبر وجلوسه عليه وإن لم يسمع الخطبة بالكلية لإعراضه عنه بالكلية، ويستثنى التحية لداخل المسجد والخطيب على المنبر، فيسن له فعلها ويخففها وجوبا. هذا إن صلى سنة الجمعة، وإلا صلاها مخففة وحصلت التحية ولا يزيد على ركعتين بكل حال، فإن لم تحصل تحية كأن كان في غير مسجد لم يصل شيئا، أما الداخل في آخر الخطبة فإن غلب على ظنه أنه إن صلاها فاتته تكبيرة الإحرام مع الإمام لم يصل التحية أي ندبا، بل يقف حتى تقام الصلاة ولا يقعد؛ لئلا يجلس في المسجد قبل التحية، ولو صلاها في هذه الحالة استحب للإمام أن يزيد في كلام الخطبة بقدر ما يكملها”. سواء في ذلك سنة الجمعة وغيرها كفائتة حيث لم تزد على ركعتين.
وأما مذهب المالكية كما جاء في مواهب الجليل بشرح مختصر سيدي خليل الجزء الثاني في باب صلاة الجمعة: “إن الخطيب إذا خرج على الناس من دار الخطابة أو من باب المسجد فإنه يحرم ابتداء الصلاة حينئذ ولو لمن دخل المسجد حينئذ. واحترز بقوله “ابتداء” ممن خرج عليه الخطيب وهو في الصلاة فإنه يتمها”. ثم نقل الاتفاق على أنه إذا جلس الإمام على المنبر فإن النفل حينئذ يحرم على الجالس، وأما فيما بين جلوسه على المنبر وخروجه على الناس فقد ذَكَرَ فيه مذهبين عند المالكية:
الأول: المنع وهو مذهب المدونة الكبرى.
والثاني: الجواز.
ثم قال بعد ذلك: “والقياس ما في الكتاب؛ لما جاء من أن خروجه يقطع الصلاة وكلامه يقطع الكلام”.
والخلاصة مما تقدم من النصوص في المذاهب المذكورة الثلاثة أن الحنفية والشافعية والمالكية أجمعوا على أنه بجلوس الإمام على المنبر يحرم ابتداء التنفل على الحاضرين بالمسجد، أما القادمون إلى المسجد بعد جلوس الإمام على المنبر فإنه عند الحنفية والمالكية يحرم عليهم أيضا ابتداء صلاة التطوع ولو كانت تحية المسجد كالجالسين بالمسجد، أما الشافعية فقد أباحوا للقادم أن يصلي ركعتين خفيفتين تحية المسجد إن كان صلى سنة الجمعة خارجه، وإن لم يكن صلاها صلى ركعتين، وهذا إذا كان الإمام في أول الخطبة، أما إذا كان في آخرها وظن الداخل حينئذ أنه لو أداها فاتته تكبيرة الإحرام مع الإمام فإنه لا يصلي التحية ندبا بل يقف حتى تقام الصلاة ولا يقعد؛ لئلا يجلس في المسجد قبل التحية ولو صلاها في هذه الحالة مع ذلك استحب للإمام أن يزيد في كلام الخطبة بقدر ما يكمل الداخل صلاة تحية المسجد، وأما من شرع في صلاة النافلة قبل خروج الإمام وقبل صعوده على المنبر فإن الصحيح في مذهب الحنفية أنه لا يقطع صلاته بل يتمها. ويظهر مما تقدم أن المسألة التي اختلفت فيها آراء الإمامين بالمسجدين محل خلاف، فمن منع ابتداء النفل على الجالسين بالمسجد والداخلين إليه بعد صعود الإمام كان مقتديا بمذهب الإمامين أبي حنيفة ومالك، ومن قصر المنع على الحاضرين والإمام على المنبر كان مقتديا بالشافعي.