رؤوف عبد العزيز يعيد اكتشاف إبراهيم نصر بشكل جديد في «فوق السحاب»في أحد أيام صيف عام 1991، كان الفنان الكوميدي “إبراهيم نصر”، في طريقه إلى البوابة الرئيسية لمبنى التليفزيون، بعد انتهائه من تصوير لقاء تليفزيوني اجتماعي – فني بمناسبة اقتراب شهر رمضان الكريم، ليلتقي صدفة في أحد طوابق المبنى برئيس القناة الثانية آنذاك، “عبد المنعم غالي”، اعترض طريقه قائلا: “تعالى يا إبراهيم عايز أكلمك في مشروع رمضاني جديد”، ليكون هذا اللقاء الذي رتبته الصدفة، النواة الأولى في تاريخ إبداعي امتد بإبراهيم نصر قرابة الـ 17 عاما.
عرض غالي حينها على نصر إنتاج برنامج لرمضان المقبل، تكون فكرته جديدة و”مطرقعة”، تكون القناة الثانية هي المختصة والمعنية بإنتاجه، فما إن سمع إبراهيم تلك العبارة حتى طافت في ذهنه اللحظات التي كان يجلس فيها أمام شاشة التلفاز، يتابع بنهم ما تقدمه بعض القنوات، بدول غربية، تعرض مقلبا يحيكه مقدم البرنامج ويعرض أحد المارة في الشارع له، ليثير الأمر الضحك والتفاعل بين الطرفين، كانت تلك البرامج تحمل اسم “الكاميرا الخفية”.
يروي نصر تفاصيل البدايات الأولى لأشهر برنامج مقالب: “كنت بحلم بده من زمان كنت كل مرة أشاهد الكاميرا الخفية الأجنبية، أقول في نفسي أنا لو عملت الكاميرا الخفية المصرية، هطلعها أجمل من كدة بكتير جدا، إحنا شعب دمه خفيف وعفوي وده كان له الفضل في نجاح البرنامج بعد عرضه، قلت له هعمل برنامج الكاميرا الخفية وأبطالي هيكونوا من الشارع أهالينا وناسنا”.
لم ترق فكرة نصر لرئيس القناة الثانية، الذي عمل قبل توليه رئاسة القناة، في هيئة الرقابة على المصنفات الفنية والإعلانية التي يتم بثها على شاشة التليفزيون، ما جعله على دراية بكافة الأعمال الكوميدية وبرامج المقالب التي تم عرضها على الشاشة الصغيرة لسنوات، يقول نصر “كان شبه رافض، قال لي يا إبراهيم هي متواجدة وكثيرة بالفعل، فقلت له خلاص بلاش، وكدت أمشي لكنه أمسك بي”.
لم ينته الجدال عند هذا الحد، ففي حين كان كلا الطرفين متمسكا برأيه، هاتف غالي إحدى القيادات في التليفزيون، فسمع إبراهيم المحادثة بين الطرفين، فإذا بالطرف الآخر يقول ضاحكا: “إبراهيم نصر السمين المبقلظ المجنون ده ؟! ده شخص جميل لا بد طبعا أن تعطي له فرصة ومده بكل ما يلزمه من معدات، فإذا بصاحب الصوت هو رئيس التليفزيون حينها، الإعلامية “سهير الأتربي”.
وبالفعل أعطيت لنصر الفرصة، ونزل للمرة الأولى إلى الشارع بصحبة مهندسي صوت وسيارة مجهزة ومعدات إضاءة وتصوير، فأصبح لا شيء بينه وبين الشارع، حلمه أصبح من خلال “انسى الدنيا”، على بعد خطوات قليلة من تحقيق حلم آمن به لسنوات، “عملت أول سنة الكاميرا الخفية، كانت ملفتة للنظر وناجحة، لدرجة إن الجمهور كان فرحانا، والنجاح كان منقطع النظير، من بعدها قررت أعملها لكن قطاع خاص اتفقت عليها بعيدا عن التليفزيون، ونجحت في القطاع الخاص 17 سنة، كل عام كان لي شخصية جديدة في الكاميرا الخفية”.
على مدار سبعة عشر عاما، كان دائما لدى نصر المزيد من التفاصيل الحياتية التي يخوض غمارها، فيخرج كل عام بشخصية مختلفة نابعة من قلب الشارع المصري، ففي عام تجده الرجل الصارم الحازم، وآخر الفكاهي كثير الدعابة، التاجر والموظف الفقير: “أنا تقريبا مثلت كافة أنواع الرجال في مصر، الغني والفقير والفكاهي والجاد، حتى حلت بداية الألفينات وقررت أعمل الكاميرا الخفية “الحريمي”، وكانت زكية زكريا، وأول مرة نزلت إلى الساحة التليفزيونية تلك الشخصية الفانتازية المجنونة، حققت نجاحا لافتا للنظر، لدرجة إنه كان هو ده البرنامج الأكثر مشاهدة على الإطلاق”، حتى أنه تم إنتاج فيلمين سينمائيين يحملان اسم الشخصية ذاتها.
أصبحت “زكية زكريا” أيقونة كوميدية ترسخت تفاصيلها ومواقفها وحتى عباراتها العفوية التي كانت تطلقها بين الحين والآخر، في أذهان جيل بكامله، يرددها حتى هذه اللحظة رغم توقف عرض البرنامج لأكثر من خمسة عشر عاما، فمن منا لم يقل على سبيل الدعابة عبارة “يا نجاتي أنفخ البلالين علشان عيد الميلاد” أو “لما أقول لك بخ.. تبخ!” وغيرها من “الإفيهات” التي تفردت بها زكية دون غيرها من الشخصيات الكوميدية.
“أنا اخترت الشخصية دي بعد ما قررت أعمل ست، مسكتها فندتها، لقيتها أكثر من واحدة ست ضربتهم مع بعض في الخلاط طلعوا زكية زكريا، كوكتيل سيدات قابلتهن في الحقيقة لكن الشكل طبعا حبيت أخرجه بشكل كوميدي وخرافي أكثر”.
سنوات متتالية حرص فيها نصر على التواجد والصراع من أجل البقاء في الموسم الرمضاني المتخم عادة بالأعمال التليفزيونية والدرامية، لكن التفرد والتجديد اللذين كانا يطرآن على كل موسم قدمه، اعتبره هبة من الله سبحانه وتعالى، كانت فكرة الإلهام هي التي تحركه وتجعله كل عام يخرج بصورة جديدة لا يمل منها المشاهد، يعلق قائلا: “زكية كان لها صداها كل موسم، لدرجة إني لما كنت ساكن في شقة وسط البلد في شارع شمبليون، قبل ما أسيبها كنت بقف ورا ستار البلكونة أشاهد ردود فعل الناس على الحلقة وأيدي على قلبي، كنت بسمع الصراخ والتصفيق واللي يشيد واللي يتصدم واللي يدخل في نوبة ضحك مش طبيعية”.
لا ينسى نصر حتى هذه اللحظة، موقفا كاد يودي بحياته أثناء تصوير إحدى حلقات الموسم الثالث أو الرابع على الأرجح، حينما وضعه جزار في ثلاجة اللحم لفترة طويلة من الوقت، مهددا إياه بالقتل، ففي هذا اليوم نزل نصر بعد ارتدائه ملابس ذكية وإحضار طاقم التصوير، إلى أحد محال “الجزارة” في أحد الأحياء الشعبية، “نزلت على الرجل قولتله أنا جاي لشراء اللحم وزوجي هيحاسبك، ثم دخلنا ذروة المقلب، وقلت له لم أشتر شيئا وملكش فلوس عندي”، فأشهر الرجل سكينا تقطيع اللحم الكبرى في وجهه وكاد يقتله، إلا أن بعض الحضور تدخلوا لتهدئة الموقف.
مواقف كثيرة بعضها أذابته السنوات وأخفته من ذاكرة نصر، إلا أنه ما زال متذكرا الضريبة التي كان يدفعها لإضحاك الملايين في منازلهم، “ربنا كان بيسترها معي ومع طاقم العمل، لأني كان هدفي إسعاد الناس وتخفيف الأعباء عنهم”.
الخوف من الفشل، لعنة التكرار وتحول العمل برمته إلى روتين سنوي، كانت كلها أسباب تدفع بنصر في كثير من الأحيان إلى الدخول في نوبات اكتئاب، بل وتكرار حدوث “الكوابيس” له أثناء النوم، فما إن ينتهي من تصوير حلقات البرنامج، يشرع في إحصاء ما تبقى من الأيام بل من الساعات والدقائق، على موعد عرض الحلقات، “الفنان غلبان يحاول أن يجتهد ويصل لبر الأمان، بيكون مرعوب ألا يحدث الخير، أنا كان الموضوع بالنسبالي مؤلم نفسيا الخوف والترقب الدائمين، الخشية من عدم رضا الجمهور عنا، أو مكونش قد المسئولية”.