عشية زيارة الملك سلمان بن عبد العزيز إلى مصر في إبريل الماضي، ساد اعتقاد جازم بأن العلاقات المصرية السعودية إلى تحسن مستمر، وأن العقبات طرأت على علاقة البلدين منذ بداية العام الماضي بعد وفاة الملك عبد الله بن عبد العزيز قد زللت حسب مبدأ المصلحة والحاجة ، أو كما قيل إعلامياً أن مصر والسعودية “شقيقتان يربطهما مصير واحد”.
على مدار الستة أشهر الماضية لم يكن هناك ما يؤكد السابق على أرض الواقع، على عكس التمنيات والأماني الإعلامية، فباستثناء وصول الشريحة الأولى من الوديعة المالية المقدمة لمصر للمملكة في أغسطس الماضي لم تكن المساعدات تعكس الأماني السابقة، فلا هي جاءت كإنقاذ فوري للأزمات التي تعاني منها القاهرة والتي تعهدت الرياض بحلها، أو أنها استمرت بوتيرة ثابتة وحسب ما هو متفق عليه، ومن ضمنها حزمة المساعدات البترولية ودفعاتها الشهرية.
وعلى أن معادلة العلاقات السعودية المصرية التي أصبحت سارية المفعول عقب زيارة سلمان نصت على أنه لا شيء ولا مساعدات دون مقابل، حيث أن المملكة في ظل أزماتها المالية والاقتصادية المتنامية باطراد منذ عامين أجبرتها على أن يكون سلاحها الأقوى في سياساتها الخارجية، «المال السياسي»، رهن ضوابط وأولويات فرضتها الأزمة الاقتصادية، فمثلاً نرى أن المساعدات السعودية لمصر منذ أواخر 2013 تحولت من قروض ومساعدات مالية إلى ودائع نقدية وصناديق استثمارية بغية مساندة الاقتصاد المصري، لتتحول في معناها السياسي إلى أن تكون مقابل لفروض الطاعة والولاء تقدمها القاهرة للرياض على صعيد السياسة الخارجية، والتي أضحت بشكل واضح تنازل مصر عن دورها ومكانتها على الصعيد الإقليمي والدولي لصالح المملكة. أي باختصار يتذيل موقف مصر تجاه قضية معينة –ولتكن مثلا الأزمة السورية- الموقف السعودي.
ولم يقف الأمر عند هذا الحد من التذيل، بل عمدت السعودية إلى الضغط للحصول على المزيد من المكاسب الإستراتيجية من “الحليف” المصري، سواء كان ذلك في اقتصاص حصة كبيرة من دور مصر الإقليمي والدولي المعهود لصالح المملكة، أو الحصول على جزيرتا تيران وصنافير الإستراتيجيتان المتحكمتان في الملاحة في خليج العقبة، واللتان بانتقال ملكيتهما إلى السعودية أصبح لها ولأول مرة منذ نشأتها تحكم في ممرات البحر الأحمر الإستراتيجية بشكل يخدم أهدافها وتطلعاتها وتطوير علاقاتها مع إسرائيل بشكل حيوي، وهو ما يمثل أولوية مطلقة حالياً للسياسة الخارجية السعودية. وهذا الأمر لم يتحقق إلا بعد ممارسة ضغوط هائلة على “الحليف” المصري، تمثلت بخلاف ورقة المساعدات الاقتصادية في الاستدارة تجاه المحور الإخواني –الخصم الرئيسي للنظام المصري- وتدعيمه، والضغط بأوراق إستراتيجية تمثل تهديد للأمن القومي المصري ممثلة في دعم الرياض لكل من أديس أبابا والخرطوم في ملفي النهضة ومثلث حلايب وشلاتين.
إلا أن زيارة سلمان التي من المفترض أنها أنهت كافة التوترات بين البلدين ما لبث أن ثبت أنها مجرد تسكين لهذه التوترات بكل ما صاحب الزيارة من اتفاقيات التي نُفذ منها –كاتفاقية ترسيم الحدود- جلبت مضار أكثر من منافع، فالهبة الشعبية التي رفضت بيع الجزيرتين المصريتين مقابل المساعدات السعودية ضربت شرعية النظام المصري في مقتل متمثل في أنه تنازل عن أرض مصرية مقابل رضا “الحليف” السعودي واستمرار مساعداته، التي اتضح أنها لم تستمر وتعطلت عقب أشهر من توقيع الاتفاقية، أي اختصاراً التزام النظام المصري باتفاقه مع المملكة لم يجلب له سخط شعبي وحسب، ولكن قابله تملص سعودي من تنفيذ تعهداتها باستمرار المساعدات.
الأمر السابق لا يمثل عقبات طارئة تذللت بإعادة ترميم العلاقات المصرية السعودية كما حدث إبان زيارة الملك سلمان، ولكنها مشاكل بنيوية تخص السياسة السعودية التي تتدهور بمعدلات كبيرة على كافة الأصعدة والملفات نتيجة العشوائية والارتجال وسياسة قلب الطاولة والهروب للأمام التي انتهجتها المملكة في السنوات الأخيرة، وحالة من العُصاب السياسي التي تجلت مؤخراً في تعويل الخطأ على الأخر في أكثر من محور واتجاه أخرها كانت العلاقات الأميركية-السعودية التي تمر بمنعطف خطير عنوانه قانون «جاستا»، الذي ابتغت المملكة أن تستقوي بحلفائها أمام واشنطن، كما هو الحال في أكثر من ملف مثل الحرب في اليمن الأزمة السورية، وبالتالي فرض معادلة على هؤلاء الحلفاء مفادها “من ليس معنا فهو ضدنا”، وهو ما فاقم نقاط ضعف وهشاشة التحالف المصري-السعودي حتى بعد محاولة الترميم التي جرت في إبريل الماضي.
تجلت المسألة السابق في الأزمتين الأخيرتين المتمثلة في قطع المساعدات البترولية السعودية عن مصر، وكذلك الهجوم السعودي على تصويت مصر لصالح القرار الروسي الخاص بوقف إطلاق النار في حلب السورية في مجلس الأمن قبل أيام، وإصرار المملكة وإعلامها على أن تربط الأزمتين ببعضهما البعض وكنتيجة لما لمقدمة تمثلت في شرود مصر عن قطيع “حلفاء المملكة”، أي أن قطع المساعدات البترولية جاء كعقاب لمصر لموقفها في مجلس الأمن الذي جاء على عكس هوى السعودية.
إلا أنه بالتدقيق في هذا الإدعاء نجد أن التصويت المصري –بغض النظر عن سلبيات طريقة تنفيذه والتبريرات التي تبعته- قد أتى عقب قرار السعودية قطع المساعدات البترولية عن مصر وليس قبلها، فالقرار السعودي الذي أصبح رسمياً أمس عبر قنوات رسمية ممثلة في إبلاغ شركة “آرامكو” وزارة البترول المصرية بتوقف شحنات الوقود الشهرية لمصر، كان قد اتخذ أواخر الشهر المنصرم بشكل شفاهي ودون تبريرات مقنعة لم يقدمها الجانب السعودي للجانب المصري، وأن من ربط المسألتين ببعضهما البعض ليست القاهرة وإنما الرياض، وأنه للمرة الأولى منذ تولي سلمان يتجاوز التوتر بين البلدين حد التلاسن الإعلامي إلى حد القرارات الرسمية عبر مؤسسات السعودية ممثلة في “آرامكو”.
وربما تكشف الأيام القادمة عن سبب قرار السعودية بقطع المساعدات البترولية، خلافاً لما هو ثابت بأن المملكة تقلص مساعداتها ومالها السياسي نتيجة الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تمر بها، وأن ربط الرياض قطع المساعدات بتصويت مصر في مجلس الأمن ماهو إلا حجة للتملص من المساعدات التي لن تستطيع المملكة بأي حال الإيفاء بها في المستقبل لا لمصر ولا لغيرها؛ فالمملكة التي دخلت مرحلة تقشف اقتصادي وتطلب مثلها مثل القاهرة قرض من صندوق النقد لا تستطيع تقديم مليارات الدولارات للقاهرة حتى وإن أرادت وحتى لو انسحقت القاهرة أمام رغبات المملكة في إتباع سياساتها.
الأخطر في هذه الأزمة الأخيرة أنها تخلق أزمة غاية في الخطورة للنظام المصري، ليس فقط كون قطع المساعدات البترولية سوف يسبب أزمة معيشية تضاف إلى نير الأزمات المتراكمة على كاهل المصريين وأثر ذلك بالسلب على رؤيتهم للسلطة الحالية، ولكن كون أن تملص السعودية من حزمة المساعدات التي تعهدت بها يضرب الإستراتيجية الاقتصادية للنظام المصري التي يمثل قرض صندوق النقد الدولي عمودها الفقري، فاشتراطات صندوق النقد الدولي التي لن يُصرف القرض إلا باستيفائها من قبل القاهرة، والتي من ضمنها مسألة تعويم الجنية لن تتم إلا بعد سداد مصر لديون قديمة لنادي الدائنين في باريس تبلغ 6 مليارات دولار، وخطة تسديد هذا المبلغ تفترض مساعدة سعودية تبلغ 2 مليار دولار، وهذا يعني أنه في حال تملص المملكة من دفع هذا المبلغ فإنه يعني انهيار الإستراتيجية الاقتصادية لمصر وتعثر مسألة قرض صندوق النقد الدولي في توقيت بالغ الحساسية على صعيد الأزمات الاقتصادية والمعيشية في الداخل المصري.
وبوضع التطورات الأخيرة على مسار العلاقات المصرية السعودية في سياق الأزمات الداخلية لكل منهما نجد أن الرياض ما انفكت عن خلق أزمات وجودية للنظام المصري وليس فقط الضغط عليه، فبداية من إجباره على تذيل السياسة الخارجية للمملكة، ومساندة المملكة للمحور الإخواني على حساب “الحليف المصري، وتنازل هذا الحليف للمملكة عن تيران وصنافير وتداعيات ذلك الداخلية على شعبية النظام، مروراً بالعبث في مقدرات أمن مصر القومي في أثيوبيا والسودان وسوريا، وأخيراً تهديد المملكة بخلق أزمات وجودية داخلية في مصر بدايتها فقط تحطيم الإستراتيجية الاقتصادية للنظام المصري بتملص المملكة من الإيفاء بمساعداتها الاقتصادية.
وكخلاصة عامة فإن هناك هامش مناورة محدود جداً تستطيع القاهرة أن تستغله لإثناء السعودية عن ممارسة سياسة جعل ظهر مصر للجدار، وهو أن الظرف الذاتي والموضوعي الحالي للسعودية على المستوى الداخلي والخارجي يمر بأزمات حرجة أوصلت المملكة إلى أن تكون في نظر القوى الدولية دولة مزعجة ومرهقة حتى لحلفائها، في وقت وصلت فيه سُمعة المملكة إلى الحضيض حتى على مستويات شعبية في الولايات المتحدة وأوربا، كما أن مسألة النفط كورقة قوة لم تعد كما كانت في ظل التطورات الأخيرة على سوق النفط وانقلاب أزمة خفض سعره التي ابتدعتها السعودية على نفسها وتأثيرها بالسلب على اقتصادها المرهق أصلاً بتكلفة الحروب التي تشنها في سوريا واليمن، وأخيراً وبشكل أصيل أن فاتورة المساعدات السعودية مكلفة جداً على المستوى الداخلي والأمني والخارجي بالنسبة لمصر، وبالتالي يتطلب إدارة هذا الهامش من جانب مصر مهارة شديدة وشجاعة في المناورة من أجل تفويت الضغط السعودي وإبطال حالة الابتزاز السعودية التي رهنت مساعداتها لمصر بتذيل موقفها على كافة الأصعدة، أو خلق أزمات تهدد استقرار مصر السياسي والاقتصادي والأمني.. ولكن على فرضية جدلية بأن تصويت مصر في مجلس الأمن جاء كرد على قطع السعودية لمساعداتها البترولية فإن الطريقة والتبرير أتوا من موقع ضعف لا قوة سمح للمملكة وإعلامها –داخلها وداخل مصر- بأن يقلب الآية ويجعل الأمر كما لو أن السعودية قطعت مساعداتها بسبب التصويت المصري.