كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم كامل الخلقة والأخلاق، فما من خلق كريم إلا وكان فيه صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله، حتى في أصعب المواقف التي يفر منها الجميع كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم حاضرًا بشجاعة وبسالة لم تكن في أحد، حتى أن الصحابة رضوان الله عليه كان يتحصنون به، ويصفون ذلك بقولهم: “كنا إذا احمر البأس ولقي القوم القوم، اتقينا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فما يكون منا أحد أدنى من القوم منه”.
هكذا تجلى خلق الشجاعة في أشجع الخلق صلى الله عليه وآله وسلم، بل وظهر ذلك في مواضع كثيرة، فيحكي لنا الصحابي أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان أحسن النَّاس، وأجود النَّاس، وأشجع النَّاس، ولقد فزع أهل المدينة ذات ليلة فانطلق النَّاس قِبَل الصوت، فاستقبلهم النَّبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكان قد سبق النَّاس إلى الصوت وهو يقول: “لن تراعوا لن تراعوا”، وهو على فرس لأبي طلحة عري، ما عليه سرج، في عنقه سيف، فقال: لقد وجدته بحرًا، أو إنَّه لبحر”.
ولم تقتصر شجاعة الحبيب صلى الله عليه وآله وسلم على ساحة المعركة فحسب، بل حتى في انتصاره للحق كان شجاعًا في وجه الظالم، فتروي لنا كتب السيرة ومنها “سيرة ابن هشام: “أن رجلاً من إراشٍ قدم مكة بإبل له، فابتاعها منه أبو جهل فمطله بأثمانها، فأقبل الإراشي حتى وقف على نادٍ من قريشٍ، ورسول الله في ناحية المسجد جالسٌ، فقال: يا معشر قريشٍ، من رجلٌ يؤدِّيني على أبي الحكم بن هشام؛ فإني رجل غريب ابن سبيل، وقد غلبني على حقِّي؟.
قال: فقال له أهل ذلك المجلس: أترى ذلك الرجل الجالس -لرسول الله وهم يهزءون به لما يعلمون بينه وبين أبي جهلٍ من العداوة- اذهب إليه فإنه يؤدِّيك عليه. فأقبل الإراشي حتى وقف على رسول الله فقال: يا عبد الله، إن أبا الحكم بن هشامٍ قد غلبني على حقٍّ لي قِبَلَه، وأنا رجل غريب ابن سبيل، وقد سألتُ هؤلاء القوم عن رجلٍ يؤدِّيني عليه، يأخذ لي حقِّي منه، فأشاروا لي إليك، فخذ لي حقِّي منه يرحمك الله.
قال: “انْطَلِقْ إلَيْهِ”. وقام معه رسول الله فلمَّا رأوه قام معه، قالوا لرجل ممَّن معهم: اتبعه فانظر ماذا يصنع. قال: وخرج رسول الله حتى جاءه فضرب عليه بابه، فقال: من هذا؟ قال: “مُحَمَّدٌ، فَاخْرُجْ إِلَيَّ”. فخرج إليه وما في وجهه من رائحةٍ، قد انتُقِع لونه، فقال: “أَعْطِ هَذَا الرَّجُلَ حَقّهُ”. قال: نعم، لا تبرح حتى أعطيه الذي له. قال: فدخل فخرج إليه بحقِّه فدفعه إليه. قال: ثم انصرف رسول الله ، وقال للإراشي: “الْحَقْ بِشَأْنِكَ”. فأقبل الإراشي حتى وقف على ذلك المجلس فقال: جزاه الله خيرًا، فقد -والله- أخذ لي حقِّي.
قال: وجاء الرجل الذي بعثوا معه، فقالوا: ويحك ماذا رأيتَ؟ قال: عجبًا من العجب، والله ما هو إلاَّ أن ضرب عليه بابه، فخرج إليه وما معه رُوحه، فقال له: “أَعْطِ هَذَا حَقَّهُ”. فقال: نعم، لا تبرح حتى أُخْرِج إليه حقَّه. فدخل فخرج إليه بحقِّه، فأعطاه إيَّاه. قال: ثم لم يلبث أبو جهل أن جاء، فقالوا له: ويلك ما لك؟ والله ما رأينا مثل ما صنعتَ قطُّ. قال: ويحكم والله ما هو إلاَّ أن ضرب عَلَيَّ بابي، وسمعتُ صوته فملئت رعبًا، ثم خرجتُ إليه وإنَّ فوق رأسه لفحلاً من الإبل ما رأيت مثل هامَته، ولا قَصْرَته، ولا أنيابه لفحل قطُّ، والله لو أَبَيْتُ لأَكَلَنِي.