يشعر العرب بالكرامة فى ثلاث لحظات من تاريخهم: صلاح الدين قاهر الصليبيين ومحرر القدس من أيديهم، ومحمد على فاتح الشام تأمينا لحدود مصر الشمالية، وناصر زعيم القومية العربية وموحد مصر وسوريا فى الجمهورية العربية المتحدة، ومصر وسوريا والعراق واليمن فى الجمهوريات العربية المتحدة.
فعندما أصبحت مصر قائدة التحرر العربى، وناصر زعيم الأمة العربية، تحررت الجزائر. وقامت الثورات فى العراق واليمن وليبيا. وكونت مصر ثلاثيا، مصر والهند ويوغوسلافيا، ناصر ونهرو وتيتو، زعامة جديدة للعالم الثالث فى دول عدم الانحياز، والحياد الإيجابى بين الشرق والغرب. وكونوا ثلاثة أرباع دول العالم فى منظمة الأمم المتحدة. وأنشأت منظمة الوحدة الأفريقية، ومنظمة شعوب آسيا وأفريقيا. وانضمت أمريكا اللاتينية. وأصبح جيفارا نموذجا للشباب. صورته على قمصانهم. والغناء الثورى له. وتحققت المشاريع الكبرى مثل السد العالى. وبالرغم من الانقلاب على الناصرية بعد وفاته إلا أن ثورات الربيع العربى أعادت إلى العرب كرامتهم، ابتداء من تونس ثم مصر ثم اليمن ثم سوريا ثم ليبيا ثم العراق ضد الاستبداد والفساد، والتفاوت الشديد بين الأغنياء والفقراء، وخرق حقوق الإنسان. ونادت بالخبز، والحرية، والعدالة الاجتماعية، والكرامة الإنسانية.
هذه اللحظات المضيئة الكبرى فى تاريخ العرب والتى حافظوا فيها على كرامتهم توضع فى كفة، وغيرها اللحظات الأخرى المظلمة توضع فى الكفة الأخرى لمعرفة أيهما أثقل، كرامة العرب أم مهانتهم؟
ظهر العرب على أنهم طلاب سلطة، وأن الحاكم لا يكون إلا واحداً حتى لو ضحى بشعبه كله كما يحدث الآن فى سوريا واليمن. وإذا كان لا حاكم إلا الله فكل حاكم يعتبر نفسه هو الإله. ونظرا لانعدام الثقة بين الحاكم والمحكوم فى الداخل اتجه الحاكم إلى الاعتماد على القوى الخارجية، بإقامة القواعد العسكرية لها كى تحميه من غضب الشعب إذا ما حان وقت الخلاص أكثر مما تحميه من العدوان الخارجى. فبعد أن عارض العرب فى الخمسينيات والستينيات الأحلاف العسكرية مثل حلف بغداد- طهران، أقاموا القواعد العسكرية الثابتة للقوى الكبرى مثل القواعد العسكرية الأمريكية فى قطر والسعودية. وتم غزو أمريكا للعراق بدعوى امتلاكها أسلحة دمار شامل. وشنق رئيسه يوم عيد الأضحى، كبشا للفداء. وضربت روسيا سوريا بدعوى القضاء على الإرهاب وليس الحفاظ على النظام السورى الذى رفع شعار «الأسد إلى الأبد». وتدخلت إيران فى تحديد مصائر جيرانها، العراق وسوريا ولبنان واليمن. وانزوت مصر التى لم تعد قادرة على أن تستمر بؤرة مركزية للعرب. ويُروى أن ضرب العراق بالصواريخ كان من بوارج أمريكية عبرت قناة السويس. وضربت ليبيا بقوات الاتحاد الأوروبى أثناء الثورة بدعوى إنقاذ الثورة.
وتراكمت مهانات العرب منذ تعليق القوميين العرب على المشانق فى دمشق 1913 لأنهم أرادوا الانفصال عن الدولة العثمانية ثم لما هزمت تركيا فى الحرب العالمية الأولى تم تقسيم ممتلكات الرجل المريض ومنها العرب بين القوى الكبرى خاصة فرنسا وانجلترا. وصدر وعد بلفور 1917 الذى وعد بإقامة وطن قومى لليهود فى فلسطين. وبعد أن استعاد العرب كرامتهم فى حركات التحرر الوطنى تراجعت الدولة الوطنية. ووقعت فى الاستبداد والفساد وتعرضت للتفتيت الطائفى والعرقى مما دفع الحركات الإسلامية تنادى بالخلافة، هذا الحلم الضائع منذ عصر الصحابة. فياليتهم يعودون إليه وكأن التاريخ يرجع إلى الوراء.
ثم تراكمت المهانات للعرب خاصة والمسلمين عامة فى الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونية نقل السفارة الأمريكية إليها. فانفجرت الانتفاضة الثالثة فى الأراضى المحتلة. وسقط الشهداء بالعشرات، وجرح الآلاف. وانتشرت المظاهرات محدودة لعدة أيام خاصة فى جمعة الغضب فى الأردن ومصر وليبيا ولبنان وتونس والمغرب واليمن والعراق وسوريا، مجالات التحرك المصرى فى الستينيات، بالرغم مما يعانيه الوطن العربى من تفتت وتجزئة وحروب أهلية. وتعلن إسرائيل أنها قدمت لأمريكا وثائق تثبت عبرية القدس. وعند العرب عشرات من الوثائق المكتوبة والتاريخية تثبت عروبة القدس حتى قبل فتح العرب للشام. رضخ الرئيس الأمريكى للضغوط الصهيونية فى أمريكا ومن مستشاريه. وبالرغم من وجود أكثر من ثلاثة ملايين مسلم فى أمريكا فإن الرئيس الأمريكى تجاهلهم لأنهم لا يمثلون ضغطاً عليه، أتوه مهاجرين باحثين عن الرزق. ومازالوا يقفون للهجرة إليها. واكتفى العرب بالبيانات والتصريحات والإعلانات. واجتمع مجلس الجامعة العربية، وعن قريب مجلس المؤتمر الإسلامى لإصدار بيانات الرفض والإدانة. واجتمعت الدول العربية المسئولة تاريخيا عن فلسطين مثل الأردن وفلسطين ومصر، الدائرة الصغرى المباشرة حول إسرائيل. وكانت الدائرة الإسلامية، تركيا، إيران، ماليزيا، اندونيسيا أكثر نشاطا فى المعارضة والمظاهرات الشعبية. كانت جمعة الغضب يوما واحدا. ولم تتكرر. وحُرم على خطباء المساجد التعرض فى خطبهم لموضوع القدس إلا فى عبارة واحدة «واقدساه».
وإذا كانت القدس فرصة للمصالحة بين فصائل المقاومة الفلسطينية فإنها لم تكن كذلك للمصالحة بين العرب وتركيا وإيران. وفضّل العرب إبقاء الخلاف السياسى على ضياع القدس. ولم يستدع العرب إلا ذاكرة 1948 فى ضياع نصف فلسطين و1967 فى ضياع النصف الثانى. ونسوا نصر أكتوبر 1973. وقد تشجعت أمريكا على الاعتراف بالقدس عاصمة أبدية لإسرائيل لما وجدت عند العرب استعداداً للصلح مع إسرائيل، العلنى أو السرى دون الإصرار على تطبيق مشروع السلام العربى الذى يشترط الانسحاب من الأراضى المحتلة فى 1967. فإسرائيل لم تعد العدو الأول للعرب بل الإرهاب. وهم مشغولون بالإبقاء على نظمهم السياسية. ويضحون بالحريات وبحقوق الإنسان، وبالحصول على القروض والمساعدات بالرغم من وجود ملياراتهم فى الخارج. يقبلون الأمر الواقع مثل الأراضى المحتلة والمستوطنات. بضاعتهم الكلام. فهم أهل شعر وخطابة، وفصاحة وبلاغة. والصوت يذهب مع الريح. ولم يسمعوا (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ. كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ).