تبدو الحكايات مُتشابهة فى الظاهر؛ لكن المُدقّق فى عُمق الصورة لن يتعب على إيجاد الفروق والتمايزات. فى المحطات المفصلية من عُمر الأوطان تتعدّد الروايات بتعداد أطرافها، وتتراكم الدلالات بقدر لحظات الامتحان والتحدى وزوايا النظر، قد يروى الرواة حكاية الوطن بصيغ عدّة، وفى الحقيقة هى ليست إلا حكاية واحدة طويلة، يُقاربها كُلٌّ منّا بمنطقه، لكن مصر تحفظها جميعًا بمنطق واحد.
فى «الكتيبة 101» يُمكن أن تستشعر أجواء قريبة من سلسلة «الاختيار» بأجزائها الثلاثة. عمليًّا نحن أمام أربعة أعمال متنوّعة فى سردها وأبطالها وجمالياتها البصرية، لكنّ رابطًا عميقًا يضم أطرافها معًا فى سردية واحدة. أتصور أنه لا يُمكن رؤية المسلسل المعروض ضمن دراما رمضان 2023 بمعزل عن الثلاثة السابقة عليه، أولاً من زاوية أن دراما مصر نفسها منذ 2011 حتى الآن سلسلة طويلة من الاختيارات، وثانيًا لأن مفاصل السنوات المُشار إليها تشابكت زمنيًّا وجغرافيًّا فبدت الخريطة بكاملها حكاية واحدة مُمتدة، والأهم أن السياق الفكرى الناظم لها جميعًا واحد ومُتماسك، تتبدّل عليها السنين والحكايات والصنّاع والمُمثّلون والمُتلقّون والجماليات وتظل على رسوخها، كأنما رغم تعدّد صنّاعها تخرج من روح واحدة!
كان «الاختيار» بمثابة تأسيس لمرحلة من الفرز الوطنى، على أرضية واضحة ومُباشرة لا تقبل التجزئة، فكانت تقابلات الوطنيين والخونة.
هكذا وضع الجزء الأول بطلنا أحمد المنسى مقابل المجرم هشام عشماوى، والجزء الثانى للشهيد محمد مبروك مقابل الخائن محمد عويس، والثالث لمؤسّسات الدولة الصلبة وفى قلبها القوات المسلحة ووزير الدفاع وقتها عبدالفتاح السيسى، مقابل جماعة الإخوان الإرهابية وحلفائها. وترافقت مع تلك السردية الواضحة طروحات درامية جانبية لا تنفصل عنها، مثل هجمة مرتدة والعائدون، تناولت تقاطعات الحرب على الإرهاب داخليًّا مع امتدادات التيارات المتطرفة خارجيًّا. الآن يبدو «الكتيبة 101» امتدادًا ناضجًا لتلك الحالة بكل مكوّناتها، وتجميعًا لخطوط وحكايات ومسارات الدراما فى سردية واحدة، باتت أكثر صفاء من الخطابية – بصريًّا على الأقل – وأكثر قدرة على الإيغال فى مشاعر ونفوس الشخصيات، والاقتراب من حكاية الوطن بقدر من الشاعرية بكل ما فيها من عُمق وغنائية وتكثيف واتساع فى الرؤى والدلالات.
انطلاقًا من تلك الرؤية، يمكن القول إن اختيار محمد سلامة كان رهانًا صائبًا. منذ محطاته الأولى حافظ المخرج الشاب على رؤية شاعرية فى إدارة حكايته، مهتمًّا بالاقتراب الحميم من شخصيّاته حتى لو احتدمت الدراما وتطاير منها الشرر. فى عمليه الأخيرين: مسلسل موسى فى رمضان 2021 و«راجعين يا هوى» رمضان 2022، قدّم سلامة بمعاونة مدير التصوير محمد مختار، صورة بالغة الحساسية فى علاقتها بفضاء الحكاية والشخصيات مع الحفاظ على لمسة جمالية نابعة من ضبط التكوينات وإجادة اللعب بالضوء. الحالة نفسها تتكرر فى «الكتيبة 101» الذى يُقدّم معالجة بصرية مهندمة ومُمتعة رغم فقر أو سخونة بيئة العمل.
لا تنفصل الحكاية عن سوابقها، كما فى مشهد تصفية الإرهابى توفيق فريج أو مشهد الضابط محمد رجب يُقدّم مساعدة غذائية لجدّة تربى أيتامًا. المشهدان وغيرهما تردّدا فى سلسلة «الاختيار». دراميًّا يبدو العمل تطويرًا لكل ما سبق، وفنيًّا يبدو حلقة أحدث على مستوى جماليات الصورة ومساحات التشخيص، والتعمّق فى نفسيات بعض الشخصيات. موسيقى خالد حماد جاءت مواكبة للحالة النفسية وما تتوزّع عليه من مستويات مشحونة بالتفاصيل الاجتماعية والحربية والإنسانية، كما لعب التلوين دورًا فى إضفاء الشاعرية مع حضور واضح للألوان الباردة ودرجات الأزرق فى مشاهد إنسانية أو لحظات احتدام للصراع، وكانت اختيارات التمثيل فعّالة وموفّقة مع أدوار مهمة، مثل: خالد الصاوى وفتحى عبدالوهاب ووليد فواز ووفاء عامر وإسلام جمال، ومن الوجوه الشابة والجديدة عبدالله سعد وإسلام البشبيشى وأحمد سلطان وغيرهم. وكان التعاون مع القوات المسلحة وتصميمها للمعارك مهمًّا فى إضفاء حالة من الطبيعية على الأجواء، ووضع المداهمات والعمليات فى سياقاتها من دون تفريط أو مُبالغات لا يحتملها السياق، وبفضل هذا ذابت الحدود بين الممثّل والشخصية، وبدا ضباط المسلسل وجنوده أقرب إلى الحقيقة.
بعيدًا من جماليات «الكتيبة 101» فى حضوره المنفصل، فإن قراءته زمنيًّا فى سياقه ضمن متوالية درامية بدأ إنتاجها قبل سنوات وما تزال مُتّصلة بصور وتنويعات، يضع يدنا على فلسفة إنتاجية وفنية تتحرّك فى ضوئها الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية، لا تستهدف فقط توثيق الحكايات والتصدّى لسرديات الخصوم، وإنما تعمل على أن يكون هذا التوثيق منظومًا ضمن سياق واضح ومُتتابع، تُفضى حلقاته إلى بعضها بتنامٍ سردى ودرامى، ربما فى هذا يُمكن النظر إلى مسلسل «حرب» المُنتظر عرضه بعد انتهاء حلقات «الكتيبة 101» ويتناول تقاطعات معركة الإرهاب داخليًّا وخارجيًّا، باعتباره تتابعًا مقصودًا فى إطار تلك الرؤية. ولأننا نحتاج هذا النوع من الدراما، ولأن حكايات مصر ومحطّات البطولة فى حاضرها حيّة ومُتجدّدة، فلا شك فى أن سرديّة الدراما الوطنية لن تنتهى، ولن تتوقف تجاربها المُبدعة.