ينقسم النقاش حول الذكاء الاصطناعي وأدواته بين مؤيد ومعارض؛ فالبعض يرى أنه سيغير المجتمع بصورة إيجابية عن طريق تحسين إنتاجية أفراده وزيادة كفاءتهم، في حين أن الطرف الآخر يرى عكس ذلك تمامًا، إذ يتخوفون من قدرات الآلات على تأدية وظائفهم، ومن ثم يتم استبدالهم شخصيًا. فما بين التأييد والمعارضة للذكاء الاصطناعي فيما يتعلق بمستقبل الوظائف بالتحديد، دعونا نناقش تبعيات هذه المسألة.
تأثير الذكاء الاصطناعي الملحوظ على الصناعة ومستقبل الوظائف
تقول مجلة “Forbes” إن مستقبل الذكاء الاصطناعي مليء بالاحتمالات والتطبيقات التي ستسهل علينا الحياة، بينما تقول مؤسسة “Bernard Marr & Co” إن تبني الذكاء الاصطناعي سيكون له آثار اقتصادية وقانونية وسياسية وتنظيمية بعيدة المدى على كل أنواع الوظائف والصناعات.
والحقيقة أن معهد “ماكينزي” العالمي للاستشارات قد صدر عنه تقريرٌ مثير للغاية، مفاده أن تبني الذكاء الاصطناعي هو أمر حتمي لا مفر منه؛ حيث إن هذا المجال لديه القدرة على زيادة حجم الأنشطة الاقتصادية بشكل مهول يصل إلى 13 تريليون دولار بحلول العام 2030، وهذا يعني زيادة حجم الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 16% إذا ما قارنَّاه باليوم، وبنسبة سنوية تصل إلى 1.2%.
وفي نفس التقرير يستمر معهد “ماكينزي” بإبهارنا ويقول إنه بحلول نفس ذلك العام المنشود، أي عام 2030، ستصل نسبة الشركات التي تتبنى ثورة الذكاء الاصطناعي إلى 70%، وأن هذه الشركات ستعتمد بشكل أساسي على صورةٍ واحدة على الأقل من صور تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي.
مستقبل الوظائف في ظل ثورة الذكاء الاصطناعي
وبحسب تقرير صادر عن بنك “غولدمان ساكس- Goldman Sachs” الأمريكي الشهير، فإن الذكاء الاصطناعي قد يستبدل 300 مليون وظيفة دوام كامل Full-time jobs، فضلاً عن إمكانية تولِّيه لربع مهام العمل في الولايات المتحدة وأوروبا خلال العشر سنوات القادمة.
ولحُسن الحظ أن التقرير لم يتركنا بدون بارقة من الأمل؛ إذ أكمل وذكر أن ذلك التأثير الكبير الذي سيُحدثه الذكاء الاصطناعي سيترتب عليه خلق الكثير من الفرص والوظائف الجديدة في مجال الأتمتة automation، ومجالات تطوير الذكاء الاصطناعي AI development- كما أشارت مجلة Forbes-، وهذا سيؤول في النهاية إلى زيادة نسبة الإنتاج العالمي للبضائع والخدمات بشكل واضح وبجودة لا يُعلى عليها.
ولكن بالعودة مرة أخرى إلى النبرة السائدة، والتي تُنبئ بتغير مستقبل الوظائف للأسوأ بالنسبة للبشر، فإننا سنصطدم بتقرير صدر عن معهد MIT وجامعة بوسطن يشير إلى أن الذكاء الاصطناعي سيستبدل حوالي مليوني عامل من عُمّال المصانع فقط بحلول 2025 فقط.
ونفس المعهد العالمي لشركة “ماكينزي” يشاركنا دراسة تُقرر أنه بحلول عام 2030، فإن 13% من موظفي العالم سيتعين عليهم أن يغيروا وظائفهم لتتماشى مع الرقمنة، وعلم الروبوتات robotics، وقفزات الذكاء الاصطناعي.
كيف تنجو بنفسك؟
للجواب على هذا السؤال سنحتاج أن نستعرض قائمة ببعض الوظائف الموجودة بمنطقة الخطر، أي القابلة للاستبدال بواسطة الذكاء الاصطناعي، والوظائف التي سيصعب أن نرى آلات تقوم بتأديتها.
أما عن النوع الأول من الوظائف..
ممثلو خدمة العملاء Customer service representatives
منذ يومنا الحالي ونحن نرى هذه الحقيقة تتجسد أمام أعيننا ومن واقع التجربة؛ فكثير من تعاملاتنا مع الشركات والخدمات أصبحت تتم بشكل مباشر مع الروبوتات التي أضحى بوسعها حل مشكلات العملاء المتكررة والرد على استفساراتهم العديدة.
موظفو الاستقبال Receptionists
يواجه موظفو الاستقبال الآن نفس المشكلة التي يواجهها ممثلو خدمة العملاء، حيث إن العديد من الشركات والفنادق حول العالم أصبحت تعتمد على الروبوتات وتثق في قدراتهم لاستقبال الضيوف من شتى بقاع الأرض.
مندوب المبيعات Salesperson
في فبراير الماضي، كشفت شركة ميكروسوفت النقاب عن أداةٍ تُسمى “Viva Sales”، وهي أداة تعمل بالذكاء الاصطناعي وقادرة على مساعدة مستخدميها في تخصيص حيل تسويقية مُفصَّلة عن الأشخاص المستهدفين، ومن ثم زيادة نسب الفاعلية والنجاح في بيع كافة المنتجات والخدمات. هذا المثال، وغيره من أدوات الذكاء الاصطناعي المشابهة، يشير إلى إمكانية الاستغناء عن خدمات مندوب المبيعات في المستقبل.
إذا دققت النظر في طبيعة الوظائف الثلاثة المذكورة، فستلاحظ أنها تشتمل على ممارسات روتينية بشكل أو بآخر -ربما الوظيفة الثالثة استثناء-؛ فممثلو خدمة العملاء يقابلون نفس المشاكل والاستفسارات الروتينية كل يوم، ونفس الشيء ينطبق على موظفي الاستقبال، وهنا مربط الفرس.
حيث يستطيع الذكاء الاصطناعي -بسهولة شديد وكفاءة عالية- أن يقوم بهذه الأعمال الروتينية التي لا تتطلب إبداعًا كبيرًا، مثل عملية إدخال البيانات Data entry. وهذا يُعرّض أصحاب الوظائف المذكورة وغيرها الكثير ممن لا يتسع المجال الآن لذكرها لخطر واضح عليهم التكيف معه.
بالنسبة للنوع الثاني من الوظائف..
هي الوظائف التي تتطلب قدرًا كبيرًا من الإبداع، ويكون العامل الرئيس لاستمراريتها ونجاحها هو الحضور الطاغي والكاريزما الشخصية، وليست المهارات، على سبيل المثال..
الأطباء وخصوصًا الجرّاحين Doctors and Surgeons
حتى وإن كانت بعض المستشفيات الآن تعتمد على الذكاء الاصطناعي وتوظّف الروبوتات للقيام ببعض المهام، فإنه من الصعوبة بمكان أن تجد إنسانًا آليًا قد استبدل الطبيب أو الجراح نفسه، حتى وإن حدَث، فمن الصعب أن يستأمن المرضى هذه الروبوتات على أرواحهم.
المُعلّمون Teacher
لا تعتمد مهنة التدريس على تلقين المعلومات الدراسية فحسب، بل تُبنى بشكل لا نقاش فيه على العلاقة بين المعلم والطالب في المقام الأول، ومهما صنعوا من آلات تستطيع أن تُلقّن مستمعيها المعلومات، فلن يُمكن بأي حال أن يتم الاستغناء عن المُعلّمين.
المحامون والقُضاة Lawyers and judges
آخر مثال لدينا سنخصصه لوظيفتين مقترنتين ببعضهما، ويعتمدان بشكل كبير على العاطفة والقدرة على المحاجاة والإقناع، ورُغم أن الآلات قد تستطيع أن تحاجّ بشكل أفضل منا نحن البشر، إلا أن افتقارها إلى الجانب الإنساني يجعلها غير صالحة لهاتين الوظيفتين.
على عكس الوظائف الثلاثة الأولى، فإن هذه النوعية من الوظائف -وكما تلاحظ- تعتمد على الجانب البشري أكثر من أي شيء آخر، فحتى وإن كانت الروبوتات قادرة على تأديتها، إلّا أن العامة لن يرتضوا ذلك، مثلما هو الحال مع الجراحين أو الأطباء النفسيين أو غيرهم. وطبعًا هذه الوظائف الثلاثة ليست سوى عينة مُختارة من وظائف أخرى كثيرة غير قابلة للمساس بواسطة الذكاء الاصطناعي.
إذن فالجواب على سؤال الفقرة، ألا وهو: “كيف تنجو بنفسك؟” يتمثل في التأقلم مع حقيقة توغل الذكاء الاصطناعي في كل مجالات الحياة، ويُقصَد بالتأقلم هنا التعلم المستمر حول الذكاء الاصطناعي وتغيير اهتماماتنا، بل وأحيانًا وظائفنا إن كانت روتينية مثل الأمثلة المذكورة. وإن لم يكن أمامنا بُدٌ من الوظائف الروتينية، فعلينا أن نُثبت كفاءتنا ونحاول أن نضع بصمتنا الإنسانية في كل مكان.