استنكر الدكتور السيد محفوظ، أستاذ التاريخ القديم والآثار بكلية الآداب جامعة الكويت، المحاولات التي يقوم بها البعض من حين لآخر لتقويض دعائم وأسس علوم تاريخية ثابتة، ومنها علم المصريات الذي تتبارى الجامعات العالمية والمؤسسات العلمية الكبرى في البحث والدراسة فيه.
وقال: إننا من حين لآخر نجد مجموعة من الهواة يحاولون تصدر المشهد، بادعاءات لا أساس لها من الصحة على الحضارة المصرية القديمة، وذلك بغرض لفت الانتباه فقط.
جاء ذلك ردا منه على ما قاله الدكتور سيد القمني الكاتب والمفكر إن صلاية الملك مينا، والمعروف باسم نارمر أو نعرمر، لا تدل على حربه لتوحيد القطرين،وإنما هي تدل على حرب بين الملك مينا وبين بدو سيناء، مستدلا بصور من الصلاية ومشاهد مسجلة عليها، حيث تظهر الملك مينا يقبض على رأس رجل ويضربه بعصا يمسكها بيده.
وقال محفوظ لصدي البلد:هذا للآسف الشديد يطعن في تاريخ “صلاية الملك نعرمر” ويشكك في أحداثها التاريخية وما اتفق عليه علماء المصريات في مؤسسات العالم العلمية وليس في مصر فقط.
وتابع: الصلاية أثر فريد وهام في تاريخ الحضارة المصرية،وربما المؤسس لنظام الدولة والمركزية التي بُنيت عليه أسس الحكم في مصر منذ ما يزيد عن خمسة آلاف عام.
وقال:تم الكشف عن هذه “صلاية نعرمر” في أساسات معبد مدينة نخن (الكوم الأحمر بالبصيلية – مركز إدفو)، على يد العالمين “كويبل” و”جرين” في موسم الحفائر 1897-1898، ضمن مجموعة أخرى من الآثار المؤرخة كلها من فترة عصر التأسيس (حوالي 3150-2680 ق.م).
وأضاف أن الصلاية الآن بالمتحف المصري بالتحرير,بتصويرها البارز على الوجهين تمثل الملك “نعرمر” بحجم أكبر من الشخصيات الآخرى مرتديًا التاج الأبيض على وجه والتاج الأحمر على الوجه الثاني.
ففي الوجه الذي يرتدي فيه التاج الأبيض، صُور وهو يقاتل أعداء مملكته مرتديًا الرداء والرموز، والملك مصور وهو يهم بأن يهيل بمقمعته على رأس أحد أعدائه بيمناه، وهو قابض على ناصيته بيسراه في حضور ومعية معبود الملكية الصقر “حور” بمنطوقه المصري وحورس بمنطوقه اليوناني”،و القابض بدوره على أنف خرج من علامة حقل متمثل في بركة تخرج منها أغصان كرمز للملكة المعادية للملك يربض فوقها الصقر ليكون هو حور المنتصر.
وفي الجزء السفلي من هذا الوجه، صور الفنان المصري اثنين من الأعداء وهما يهمان بالفرار من وجه الملك وكأنهما يسبحان في الفضاء،وعلى الوجه الآخر للصلاية، قسم الفنان مساحة التصوير لثلاثة صفوف،في أعلاها منظر احتفالي يصور الملك في مسيرة النصر مرتديا التاج الأحمر أكبر ممن حوله وخلفه حامل النعال وأمامه أحد كبار الشخصيات في الدولة وأمامهم حملة الأعلام والساريات في مواجهة عشرة من أعداء الملك مقطعي الرؤوس (الرأس موضوعة بين أرجلهم).
وفي وسط الصلاية، تصوير لرجلين يمسك كل واحد منهما بحبل مربوط إلى أعلى عنق حيوان مركب يجمع بين جسد لبؤة ورأس أفعي ووجه لبؤة،وقد مثلا الحيوانين وهما يتعانقان بشكل يكون دائرة في المنتصف موجودة لضرورة وظيفية خاصة بالصلاية.
وللتعانق رمزية تعبر عن الوحدة بيم المملكتين المتحاربتين، إذا قبلنا بأن كل حيوان يرمز لمملكة منهما. وفي أسفل الصلاية، صُور فحل قوي (سيصبح هذا الوصف أحد الأوصاف الهامة للملك باعتباره الفحل القوي) وهو يقتحم بقرنيه القويين جدران مدينة محصنة دائرية الشكل ويطأ بأحد طرفيه الأمامين واحدًا من أعدائه الذين يفرون منه سطوته وقوته.
وأشار إلي أن الصلاية ونقوشها أثارت جدلا واسعا ونقاشا علميا بين المتخصصين،وقد تركزت النقاشات بصفة عامة حول ما إذا كانت نقوشها تصور أحداث واقعية أو أنها تصوير رمزي لعملية توحيد الدولة المصرية أو أحيانًا تذهب لأنها تسجل انتصار الملك على المركز المحصن في شمال غرب الدلتا والمعروف باسم “بوتو”.
وهناك من رفض أن يكون الصراع داخلي بين مملكتين في وادي النيل وافترض أن الملك يصارع قبائل ليبية هاجمت البلاد، وهناك باحثين مثل “نيقولاس ماييت” افترض أن الصلاية لا تصور أحداث توحيد البلاد من وجهة النظر التاريخية،ولكن تمثل الأحداث التي وقعت في العام الذي كُرست فيه الصلاية للمعبد.
في حين افترضت “ويتني ديفز” أن التصوير في الصلاية ونظيراتها من نفس العصر تؤسس وترسخ لمفهوم الملك كصياد ماهر ومحارب لا يشق له غبار، وهو الذي يفرض سطوته على الحيوانات الكاسرة وكذلك على مناوئيه وأعدائه.
وافترض”جون بانز” أن الأحداث المصورة على الصلاية تمثل مجموعة من الانجازات الملكية في الماضي، بحيث أن الهدف منها ليس تسجيل أحداث ولكن ترسيخ لمفهوم الملك المهيمن المسيطر على ناموس العالم ونظامه (الماعت) باسم المعبودات وهو القاهر دومًا لمناوئيه في الداخل وأعدائه في الخارج وهم الممثلين لقوى الفوضى (الإزفت).
وللرد علي من يشكك في تاريخ وأهمية الصلاية الشهيرة،قال محفوظ إنها تؤرخ بنهاية عصر ما قبل الأسرات وبداية عصر التأسيس في الأسرة الأولى، وذلك لأنها وجدت في سياقات أثرية متمثلة في ودائع معبد مدينة نخن، وبالتالي فالتاريخ يرتبط بالطبقات الأثرية وما عُثر عليه من آثار أخرى وفخار وغيره،وكذلك لأن الأسلوب الفني وطرق التصوير على الصلاية تمثل أسلوب ومدرسة التصوير في خلال هذه المرحلة التاريخية، كما أن الدراسات الباليوجرافية (الخطي) للعلامات الهيروغليفية الموجودة على الصلاية تناسب نفس طريقة الكتابة المستخدمة في عصر التأسيس،سواء على النقوش الصخرية أو الصلايات الآخرى أو البطاقات العظمية والعاجية.
وقال إن تصوير الملك ومن يناصره بهيئة منمقة حسنة يقفون على أرض ثابتة،في حين صُور أعداء الملك شبه عراة بجسد في الغالب مشوه،وهو ما يظهر رغبة الفنان في تحقير شأنهم، كما صورهم لا يقفون على أرض، فهم من أرض لهم ولا عرض متمثل في ملبس يسترهم.
وأكد علي أنه يمكن اعتبار الصلاية وثيقة نشأة وتأسيس الدولة الفرعونية بتقاليدها وسلطاتها المركزية،وفي القلب منها الملك المؤله الحاكم وهو المنتصر على قوى الفوضى وقاهر المعتدين على أرض مملكته، فطريقة تصويره وأرديته وتيجانه وهيئته المثالية وطريقة قهره لأعدائه استمرت كتقليد ملكي لتصوير وتمثيل الملوك عبر العصور وكذلك ربطه بالصقر “حورس” مرة وبالكبش مرة.
وأشار إلي أنه سواء عبرت الصلاية عن أحداث حقيقية أو رمزت لسطوة السلطة الملكية المركزية وفرض سلطاتها المطلقة، فهي تعتبر وثيقة إعلان تأسيس الدولة المصرية المركزية تحت الراية المقدسة للملك صاحب الهيمنة المطلقة، قائما على حفظ الناموس والنظام (الماعت) ضد قوى الفوضى وأعداء المؤسسة الملكية في الداخل والخارج.