قال الإمام ابن القيّم – رحمه الله تعالى – في كتابه الفوائد: مبدأ كل علم نظري وعمل اختياري هو الخواطر والأفكار فإنها توجب التصورات، والتصورات تدعو إلى الإرادات، والإرادات تقتضي وقوع الفعل، وكثرة تكراره تعطي العادة.
فصلاح هذه المراتب بصلاح الخواطر والأفكار، وفسادها بفسادها، فصلاح الخواطر بأن تكون مراقبة لوليها وإلاهها صاعدة إليه دائرة على مرضاته ومحابه فإنّه سبحانه به كل صلاح، ومن عنده كل هدى، ومن توفيقه كل رشد، ومن توليه لعبده كل حفظ، ومن توليه وإعراضه عنه كل ضلال وشقاء، فيظفر العبدُ بكل خير وهدى ورشد بقدر إثبات عين فكرته في آلائه ونعمه وتوحيده وطرق معرفته، وطرق عبوديته وإنزاله إياه حاضراً معه، مشاهداً له، ناظراً إليه رقيباً عليه مطلعاً على خواطره وإرادته وهمّه، فحينئذٍ يستحي منه و يجله أن يطلع منه على عورة يكره أن يطلع عليها مخلوق مثله، أو يرى في نفسه خاطراً يمقته عليه.
فمتى أنزل ربّه هذه المنزلة منه رَفَعَه و قرّبه منه، وأكرمه واجتباه ووالاه، وبقدر ذلك يبعد عنه الأوساخ والدناءات والخواطر الرديئة والأفكار الدنيئة، كما أنّه كلما بعد منه وأعرض عنه قرب من الأوساخ والدناءات والأقذار، ويقطع عن جميع الكمالات ويتصل بجميع النقائص.
فالإنسان خير المخلوقات إذا تقرب من بارئه والتزم أوامره ونواهيه وعمل بمرضاته وآثره على هواه. وشر المخلوقات، إذا تباعد عنه و لم يتحرك قلبه لقربه وطاعته وابتغاء مرضاته، فمتى اختار التقرب إليه وآثره على نفسه وهواه، فقد حكم قلبه وعقله وإيمانه على نفسه وشيطانه، وحكم رشده على غيّه، وهداه على هواه، ومتى اختار التباعد منه فقد حكم نفسه وهواه وشيطانه على عقله وقلبه ورشده.
واعلم أن الخطرات والوساوس تؤدي متعلقاتها إلى الفكر فيأخذها الفكر فيؤديها إلى التذكر، فيأخذها الذكر فيؤديها إلى الإرادة، فتأخذها الإرادة فتؤديها إلى الجوارح والعمل، فتستحكم فتصير عادة، فردها إلى مبادئها أسهل من قطعها بعد قوتها وتمامها.
ومعلوم أنه لم يعط الإنسان أمانة الخواطر ولا القوة على قطعها، فإنها تهجم عليه هجوم النفس، إلاّ أن قوة الإيمان والعقل له ونفرته منه كما قال الصحابة – رضوان الله عليهم: يا رسول الله إن أحدنا يجد في نفسه ما لأن يحترق حتى يصير حممة (أي فحمة) أحب إليه من أن يتكلم به، فقال: ” أوَقَد وجدتموه؟ ” قالوا: نعم، قال: ” ذلك صريح الإيمان ” [مسلم:١٣٢] وفي رواية: ” الحمد لله الذي ردّ كيده إلى الوسوسة “.
وفي خلق الله سبحانه النفس شبيهة بالرحى الدائرة التي لا تسكن ولا بد لها من شيء تطحنه، فإن وضع فيها حب طحنته، وإن وضع فيها تراب أو حصى طحنته، فالأفكار والخواطر التي تجول في النفس هي بمنزلة الحب الذي يوضع في الرحى، ولا تبقى تلك الرحى معطلة قط، بل لا بد لها من شيء يوضع فيها ، فمن الناس من تطحن رحاه حبّاً يخرج دقيقاً ينفع به نفسه وغيره، وأكثرهم يطحن رملاً وحصى و تبناً ونحو ذلك، فإذا جاء وقت العجن والخبز تبين له حقيقة طحينه، فإذا دفعت الخاطر الوارد عليك اندفع عنك ما بعده، وإن قبلته صار فكراً جوالاً. فاستخدم الإرادة فتساعدت هي والفكر على استخدام الجوارح ، فإن تعذر استخدامها رجعا إلى القلب بالتمني والشهوة وتوجهه إلى جهة المراد.
ومن المعلوم أن إصلاح الخواطر أسهل من إصلاح الأفكار، و إصلاح الأفكار أسهل من إصلاح الإرادات، وإصلاح الإرادات أسهل من تدارك فساد العمل، وتداركه أسهل من قطع العوائد.
فأنفع الدواء أن تشغل نفسك بالفكر فيما يعنيك دون ما لا يعنيك، فالفكر فيما لا يعني باب كل شر، ومن فكر فيما لا يعنيه فاته ما يعنيه واشتغل عن أنفع الأشياء له بما لا منفعة له فيه، فالفكر والخواطر والإرادة والهمة أحق شيء بإصلاحه من نفسك فإنّ هذه خاصتك، وحقيقتك التي تبتعد بها أو تقرب من إلهك ومعبودك الذي لا سعادة لك إلاّ في قربه ورضاه عنك، وكل الشقاء في بعدك عنه وسخطه عليك، ومن كان في خواطره ومجالات فكره دنيئاً خسيساً لم يكن في سائر أمره إلاّ كذلك.
وإيّاك أن تمكن الشيطان من بيت أفكارك وإرادتك فإنه يفسدها عليك فساداً يصعب تداركه، ويلقي إليك أنواع الوساوس والأفكار المضرة ويحول بينك وبين الفكر فيما ينفعك وأنت الذي أعنته على نفسك بتمكينه من قلبك وخواطرك فملكها عليك.
فمثالك معه مثال صاحب رحى يطحن فيها جيد الحبوب، فأتاه شخص معه حمل تراب وبعر وفحم وغثاء ليطحنه في طاحونته، فإن طرده ولم يمكنه من إلقاء ما معه في الطاحون استمر على طحن ما ينفعه وإن مكنه من إلقاء ذلك في الطاحون أفسد ما فيها من الحب وخرج الطحين كله فاسداً.
والذي يلقيه الشيطان في النفس لا يخرج عن الفكر فيما كان ودخل في الوجود لو كان على خلاف ذلك، وفيما لم يكن لو كان كيف كان يكون، أو فيما يملك الفكر فيه من أنواع الفواحش والحرام أو في خيالات وهمية لا حقيقة لها أو في باطل أو فيما لا سبيل إلى إدراكه من أنواع ما طوي عنه علمه فيلقيه في تلك الخواطر التي لا يبلغ منها غاية ولا يقف منها على نهاية، فيجعل ذلك مجال فكره ومسرح وهمه. وجماع إصلاح ذلك: أن تشغل فكرك في باب العلوم والتصورات بمعرفة ما يلزمك من التوحيد وحقوقه وفي الموت وما بعده إلى دخول الجنّة والنار وفي آفات الأعمال وطرق التحرز منها، وفي باب الإرادات والعزوم أن تشغل نفسك بإرادة ما ينفعك إرادته وطرح إرادة ما يضرك إرادته.
وعند العارفين أن تمني الخيانة وإشغال الفكر والقلب بها أضر على القلب من نفس الخيانة، ولاسيما إذا فرغ قلبه منها بعد مباشرتها فإن تمنيها يشغل القلب ويملؤه منها ويجعلها همه ومراده.
وأن تجد في الشاهد أن الملك من البشر إذا كان في بعض حاشيته وخدمه من هو مُتَمَنٍّ لخيانته مشغول القلب والفكر بها ممتلئ منها وهو مع ذلك في خدمته وقضاء أشغاله، فإذا اطّلع على سره وقصده مَقَتَه غاية المقت وأبغضه وقابله بما يستحقه، وكان أبغض إليه من رجل بعيد عنه جنى بعض الجنايات وقلبه وسرّه مع الملك غير منطو على تمني الخيانة ومحبتها والحرص عليها، فالأول يتركها عجزاً واشتغالاً بما هو فيه وقلبه ممتلئ بها، والثاني يفعلها وقلبه كاره لها ليس فيه إضمار الخيانة، ولا الإصرار عليها، فهذا أحسن حالاً وأسلم عاقبةً من الأوّل.
وبالجملة: فالقلب لا يخلو قط من الفكر، إمّا في واجب آخرته ومصالحها، وإمّا في مصالح دنياه ومعاشه، وإمّا في الوساوس والأماني الباطلة والمقدرات المفروضة.