حوادثعاجل

قصة الوقائع الخفية لقضية الرشوة الكبرى التى كان محمد فريد خميس متهما فيها.. وانتهت بفصل نائب رئيس مجلس الدولة واستقالة آخر

* 988 ألف جنيه جملة الأموال التى خرجت من شركات خميس لاستصدار تراخيص للجامعة البريطانية واسترداد ضرائب ورسوم خدمات لصالح شركة «النساجون»

*كيف نجا رئيس شركة «النساجون الشرقيون» من المحاكمة؟ وما الذى قررته النيابة ضد المتهمين من القضاة؟

*وكيف حمت نيابة أمن الدولة العليا صرح مجلس الدولة من التعرض لضربة تهز سمعته وثقة الناس فى أحكامه العادلة؟

هذه وثيقة اختفت لأكثر من عام كامل دون أن يكشف عنها أحد أو تراها عين أو تطرأ تفاصيلها وأسرارها على قلب بشر، هذه وثيقة اختلطت فى تفاصيلها السياسة بالبيزنس، والسلطة بالفساد، والعدالة بالرشوة، والشخصيات العامة المرموقة بشخصيات مجهولة تحترف تمرير الصفقات فوق القانون.

الوثيقة نكشف عنها بعد أيام قليلة من قرار مجلس تأديب القضاة بمجلس الدولة فصل المستشار سيد زكى، نائب رئيس مجلس الدولة، من عمله القضائى، وتضمن القرار إحالته إلى وظيفة إدارية بجهة إدارية أخرى، وذلك لاتهامه بتلقى مبالغ مالية وهدايا عينية على سبيل الرشوة، من رجل الأعمال محمد فريد خميس، صاحب مجموعة شركات «النساجون الشرقيون»، مقابل إصدار أحكام لصالحه ضد عدد من الوزارات.

الوثيقة تشمل أيضاً اسم مستشار آخر كان نائباً لرئيس مجلس الدولة، هو المستشار أحمد عبداللطيف الذى تم القبض عليه فى القضية لتقاضيه رشاوى من محامى رجل الأعمال المعروف، واختار عبداللطيف الاستقالة من عمله القضائى بعد انتهاء التحقيقات فى القضية.

الوثيقة التى نستعرضها هى بحق وثيقة تاريخية حررتها نيابة أمن الدولة العليا فى قضية الرشوة المشار إليها التى شغلت اهتماما بالغا من الرأى العام، وتكشف عن أحد أهم الأدوار التى لعبتها النيابة فى الحفاظ على سمعة القضاء المصرى وتماسكه وحمايته من أن يتهاوى مجده فى أعين الناس، فى نفس الوقت الذى كشفت فيه أيضا عن دهاليز مأساوية لحفنة من الرجال، ارتضت أن تستبدل ما هو أدنى بما هو خير فعرضت ضمائرها فى مزاد الرشوة، وخططت لأن تحقق مصالحها الخاصة بالمال الحرام على حساب المصلحة العامة.

بين أيدينا هذه المذكرة التاريخية المكتوبة بدقة بالغة من نيابة أمن الدولة فى قضية الرشوة التى ظلت سراً من الأسرار الكبرى، حتى قررت نيابة أمن الدولة حفظها نهائياً فى يناير الماضى، بعد أن انتهت فى تحقيقاتها إلى ضرورة إحالة المتهمين من موظفى مجلس الدولة إلى محاكمة تأديبية، وقررت النيابة فى براعة قانونية لافتة حماية مجلس الدولة بقضاته الشامخين من أن تتصدع سمعته فى حالة نظر القضية أمام المحاكم الجنائية.

موقف النيابة المشرف لم يمنع من تقديم حيثيات تدين أداء فاسداً جرى فى الكواليس، وسلوكاً مشيناً ظهر فى وقائع أحداث هذه الرشوة التى كان أبطالها حفنة من الرجال المقربين للنائب محمد فريد خميس فى مجموعة شركات «النساجون الشرقيون».

هذه التفاصيل التى تظهر إلى النور للمرة الأولى تزيح الستار عن الكثير من الأسرار، فهل كان محمد فريد خميس مطلعا على تفاصيل ما يجرى داخل الشركة؟ وهل كان رجاله يطلعونه على دهاليز عمليات الرشوة والدفع المباشر لاستصدار الأحكام القضائية؟ وما هى الأطراف المتورطة فى الداخل؟ وما الذى دفع النيابة إلى هذا القرار التاريخى بحفظ القضية وإحالة المتهمين إلى المحكمة التأديبية؟

هذه المذكرة التاريخية فى القضية رقم 770 لسنة 2008 حصر أمن دولة عليا، تقدم درساً قانونياً مهماً من جهة، وتقدم نموذجاً للمواءمة الرشيدة لنيابة أمن الدولة، فى نفس الوقت الذى تقدم فيه أيضاً قصة يمكن تدريسها فى آليات حركة أصحاب الضمائر الخربة التى تحاول أن تتسلل إلى المؤسسة القضائية لتحرك العدالة على هواها الخاص، وتحاول توجيه القضاء إلى مصالحها الضيقة.

القصة الكاملة لهذه القضية بدأت مع تحريات هيئة الرقابة الإدارية حول معلومات عن تلقى عدد من موظفى مجلس الدولة رشاوى من المتقاضين فى دعوى قضائية ضد وزارة الأوقاف، وكانت المفاجأة التى انتهى إليها رجال الرقابة الإدارية خلال سعيهم للكشف عن هذه الجريمة أن اكتشفوا جريمة أخرى ورد فيها اسم رجل الأعمال محمد فريد خميس، فلدى قيام هيئة الرقابة بتعقب المتهم (ر. م) اكتشفوا محاولته التوسط مع أحد قضاة مجلس الدولة، وهو المستشار أحمد عبداللطيف، وتسليمه مبلغ 76 ألف جنيه على سبيل الرشوة، وبتفتيش منزل المتهم (ر. م) تم العثور على مفكرة شخصية محرر فيها بعض المبالغ المالية أمام اسم محمد فريد خميس، وقد أقر المتهم لعضو الرقابة الإدارية لدى التفتيش أن بعض هذه المبالغ توسط فى تقديمها على سبيل الرشوة بين رجل الأعمال محمد فريد خميس والمتهم أحمد عبداللطيف فى مجلس الدولة الذى تم ضبطه من قبل الرقابة الإدارية، وكانت هذه المبالغ نظير سرعة الفصل فى الدعاوى المنظورة أمام الدائرة التى يترأسها المستشار أحمد عبداللطيف، لاسترداد رسوم خدمات وضرائب سلع رأسمالية خاصة بمجموعة شركات «النساجون الشرقيون» من وزارة المالية، وأخرى تتعلق بطلب الترخيص بتشغيل كليتى الأسنان والصيدلة بالجامعة البريطانية، وقد فاتح المتهم أحمد عبداللطيف المتهم (ر. م) فى طلب هذه الرشوة حين علم بارتباط الأخير بصداقة مع المتهم (م. أ) المستشار القانونى لـ «النساجون الشرقيون»، ومن ثم تم الاتفاق على ذلك مقابل 250 ألف جنيه على سبيل الرشوة عن كل حكم، وقد طلب منه أجلا لحين مفاتحة محمد فريد خميس وبانقضاء هذا الأجل، أبلغه بالموافقة على أداء الرشوة، وتحرر على هذا الاتفاق عقد صورى للاستشارات بين (م. أ) ومجموعة الشركات، بحيث يتيح له هذا العقد تقاضى نسبة من المبالغ المحكوم بردها، وكى يتسنى له تقديم رشوة منها إلى المستشار أحمد عبداللطيف فى مجلس الدولة.

هذه هى الواقعة الأولى فى قضية الرشوة، لكن الأمور وحسب مذكرة نيابة أمن الدولة العليا لا تنتهى عند هذا الحد، لكن المتهم (ر. م) يضيف أن محمد فريد فاتحه الحديث فى شأن رفض وزارة التعليم العالى الترخيص بتشغيل كليتى طب الأسنان والصيدلة بالجامعة البريطانية، فاقترح عليه إقامة دعوى فى هذا الشأن أمام القضاء الإدارى ليفصل فيها المستشار أحمد عبداللطيف نفسه لصالح الجامعة البريطانية مقابل مبالغ مالية له على سبيل الرشوة، مثلما حدث فى قضايا رسوم الخدمات، فوافقه على ذلك بشرط تمام تنفيذ الحكم قبل أداء أى مبالغ.

تنتقل القصة هنا إلى مشهد آخر يتورط فيه متهم جديد، فبعد أن قام (ر. م) بمفاتحة أحمد عبداللطيف مجددا فى هذا المطلب، أجابه بأن هذه الدعاوى أمام دائرة التعليم والطلبة، والعضو فيها هو المستشار سيد زكى، وأبلغه أنه سوف يتوسط لديه لإصدار هذه الأحكام مقابل 400 ألف جنيه، وأخبره بعد ذلك بعدم إمكانية إصدار حكم من الدائرة لوجود خلافات بين أعضائها، وكان الحل أن يقرر المستشار سيد زكى لتحقيق المراد إحالة هذه الدعاوى إلى دائرة التراخيص التى يعمل بها أحمد عبداللطيف نفسه، وأنه سوف يصدر حكما سريعا، وتوجه (ر. م) إلى مكتب محمد فريد بمنطقة مصر الجديدة وعرض عليه طلب أحمد عبداللطيف وإلحاحه لأخذ مبلغ مقدم من الرشوة فوافق وسلمه 100 ألف جنيه أخذ منها أحمد عبداللطيف 60 ألف جنيه ثم توجه إلى منزل سيد زكى وسلمه مبلغ 25 ألف جنيه، وأخذ (ر. م) 15 ألف جنيه وتم تأجيل بقية مبلغ الـ 400 الف جنيه عند تنفيذ الحكم.

كانت هذه اعترافات (ر. م) الخيط الأول فى القضية أمام النيابة، لكن المستشارين المتهمين أنكرا هذه الاعترافات أمام النيابة، غير أن النيابة العامة قامت بتفتيش مكتب المستشار القانونى لمجموعة شركات النساجون الشرقيون (م. أ)، وأسفر التفتيش عن ضبط الأوراق الخاصة بالدعاوى التى أصدر أحكامها المتهم أحمد عبداللطيف من مجلس الدولة، وهى قضايا رسوم خدمات وقضايا الجامعة البريطانية، وتم ضبط صور الشيكات وأذونا ومستندات بلغت جملتها 988 ألف جنيه مسحوبة على البنك المصرى الخليجى، وبنك قناة السويس، لحساب المتهم (ر. م) الوسيط الأول فى جميع عمليات الرشوة فى هذه القضية.

جاء الدور هنا على استجواب محمد فريد خميس من قبل النيابة وبناء على الإذن الصادر من مجلس الشورى فى 10/8 /2008، وأمام النيابة أنكر محمد فريد هذا الاتهام نافيا علمه بأن المبالغ المالية المؤداة إلى (ر. م) كانت على سبيل الرشوة، وإنما كانت تحصل على سبيل أتعاب محاماة وقرر أنه التقى (ر. م) بالفعل فى أحد مقار الشركة بعد ترشيحه من قبل المستشار القانونى للمجموعة لتولى القضايا الخاصة برسوم الخدمات أمام مجلس الدولة، وتحرر بينه وبين (ر. م) عقد استشارات قانونية منصوص فيه على استحقاقه نسبة من المبالغ المحكوم بردها، كما نفى فريد خميس تمتع (ر. م) بأى وكالة قانونية تتيح له الحضور عن الجامعة أمام أى محكمة.

حتى هنا يبدو الأمر بين اعترافات (ر. م) وإنكار فريد خميس وسائر المتهمين أن صيدا واحدا دخل إلى المصيدة، لكن المعلومات والأوراق التى جمعتها النيابة مكنتها من أن تضع يديها على الحقائق كاملة فى هذه القضية، وفى معالجة قضائية حكيمة قررت النيابة حفظ القضية حماية للصرح القضائى الممثل فى مجلس الدولة دون أن تمرر الواقعة بتوزيع عدد من الإدانات والمحاكمات التأديبية واللوم لأطراف هذه المأساة، وفى جملة قانونية بليغة قالت نيابة أمن الدولة العليا فى المذكرة: «قررت النيابة الاكتفاء بمحاكمة المتهمين تأديبيا دون إحالة القضية إلى قضاء الموضوع حماية للصرح القضائى الشامخ وما يتبعه ذلك من اضطراب الثقة المستقرة فى ضمير العامة من المتقاضين تجاه هذا الصرح، فقررت النيابة استبعاد شبهة الاتهام المسند إلى محمد فريد خميس بشأن تقديم مبالغ مالية على سبيل الرشوة لموظف عام، وفى نفس الوقت موافاة مجلس الدولة بصورة رسمية من الأوراق لاتخاذ إجراءات محاكمة المتهم سيد زكى تأديبياً عما نسب إليه أمام مجلس التأديب الخاص بمجلس الدولة طبقاً لنص المادة 91 من قانون المجلس رقم 47 لسنة 1979. وإرسال صورة رسمية من الأوراق إلى محكمة استئناف القاهرة لمحاكمة المتهمين (ر. م) و(م. أ) المستشار القانونى لمجموعة «النساجون الشرقيون» أمام مجلس تأديب المحامين بالمحكمة والمنصوص عليه بالمواد 107 من القانون رقم 17 لسنة 1983 بشأن إصدار قانون المحاماة».

أما بخصوص محمد فريد خميس فقد رأت النيابة أن الاتهام المنسوب إليه بصدد تقديم مبالغ مالية كرشوة إلى أحمد عبداللطيف بواسطة (م. ر) و(م. أ) كان قائماً على أساس اعتراف (م. ر) فقط بالتهمة، والذى أشار فى جزء من اعترافاته إلى علم محمد فريد خميس بأن المبالغ المنصرفة هى على سبيل الرشوة، ولم يقطع بإثبات هذا العلم دليل آخر من الأوراق سوى شهادة عضو الرقابة الإدارية، وهى شهادة رأت النيابة فى المذكرة أنها مقصورة على إثبات القصد الجنائى لدى محمد فريد خميس، وهذه التحريات التى أجراها لا تعدو كونها تعبر عن وجهة نظره، ولا يصح الارتكان إليها كدليل معتبر فى الإثبات.

وقررت النيابة أيضاً موافاة مجلس الشورى بصورة رسمية من الأوراق للوقوف على ما أثير بشأن محمد فريد خميس، حيث أخذت عليه النيابة أنه أساء استخدام معاونيه، وهو رجل عام كان عليه أن يبدى المصلحة العامة فوق أى اعتبار وأن يحسن استخدام معاونيه.

هكذا نجا محمد فريد خميس من هذه التهمة، وهكذا فى الوقت نفسه قررت النيابة محاكمة مستشاره القانونى تأديبيا، ومحاكمة المستشارين المتورطين تأديبا أيضاً، وذلك عبر مجلس تأديب القضاة بمجلس الدولة، وعقب انتهاء هذه التحقيقات قرر المستشار أحمد عبداللطيف تقديم استقالته، وبقى المستشار سيد زكى، الذى قرر مجلس تأديب القضاة بمجلس الدولة فصله من عمله القضائى، وتضمن القرار إحالته الى وظيفة إدارية بجهة إدارية أخرى.

إنها مذكرة تاريخية بكل المقاييس، كما أنها قضية تاريخية أيضا فى دهاليزها التى تكشف عن نوايا حفنة من المحامين المقربين إلى دوائر البيزنس فى التأثير على صرح العدالة الشامخ واللعب فى نزاهة هذه المؤسسة القضائية الكبيرة.

زر الذهاب إلى الأعلى