قطر ونهجها التخريبي في ليبيا
مع بدء الانتفاضة الشعبية التي أسقطت نظام الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي، طلب مني نبيل الخطيب وفارس بن حزام العودة بسرعة إلى تونس التي مكثت فيها أسابيع من شهر يناير(كانون الثاني) ضمن فريق من قناة العربية لتغطية الثورة التي أنهت 23 عاما من حكم زين العابدين بن علي.
مهمتي كانت تغطية الجانب الإنساني من الحدث الليبي، أزمة النازحين على الحدود التونسية – الليبية، والجسر الجوّي في مطار جزيرة جربة جنوب تونس لإعادة النازحين إلى بلدانهم الأصلية قبل أن أذهب في رحلة محفوفة بالمخاطر وعبر مسالك صحراوية وعرة إلى داخل ليبيا مع مجموعة من ثوار الأمازيغ الذين طردوا سلطات القذافي من مدينتهم نالوت ورفعوا فوق مباني المصالح الحكومية علم الاستقلال لأول مرة منذ الانقلاب على الملكية الدستورية السنوسية سبتمبر (ايلول) 1969.
ومنذ ذالك اليوم الطويل من فبراير (شباط) 2011 ترددت على ليبيا كثيرا وأقمت فيها أحيانا لعدة أشهر متواصلة متنقلا بين الزنتان وطرابلس وبنغازي وطبرق، إلى أن أحكمت جماعات متشددة تستهدف الصحافيين سيطرتها على أجزاء واسعة من البلاد.
غداة دخول الثوار العاصمة طرابلس وإعلان المجلس الانتقالي في بنغازي الواجهة السياسية للمعارضة المسلحة ما سماه التحرير الشامل والنصر النهائي، طرح الدكتور محمود جبريل رئيس المكتب التنفيذي (حكومة انتقالية مصغرة) خطة لنزع أسلحة المقاتلين غير النظاميين في مئات الكتائب ودمج آلاف من مقاتليها في الجيش الوطني الليبي،
رفض مسؤولون قطريون الخطة وحذروا من مغبة التفكير في نزع أسلحة الثوار، وكرر أمير البلاد السابق نفس الموقف علنا في مؤتمر صحافي بباريس.
الكل كان يدرك خطورة انتشار الملايين من قطع السلاح وعشرات الآلاف من المقاتلين غير النظاميين في مدن أهلة بالسكان، بيد أن لا أحد في ذالك الوقت المبكر من زمن ليبيا ما بعد القذافي يمكنه أن يقف في وجه ما يرسمه ضباط الاستخبارات القطرية في أجنحة فنادق طرابلس.
يقول سياسي ليبي وهو يستعيد شريط ذكريات الثورة المسلحة: وجه ضباط قطريون قادة المجموعات المسلحة المشاركين في معركة "فتح طرابلس" لأهداف معينة، البنك المركزي وباب العزيزية ومخازن الأسلحة والذخيرة ومكاتب أجهزة الاستخبارات، حسب قوله.
إن السيطرة على هذه المؤسسات والمواقع كان المقدمة لتغول الميليشيات الأصولية في ليبيا وإضعاف الجيش الوطني الليبي وتفكيكه، لقد بسطوا سيطرتهم سريعا على مصادر المال والسلاح وجرى الترويج في الاعلام القطري لعضو الجماعة الليبية المقاتلة عبد الحكيم بلحاج كحاكم فعلي للعاصمة.
كان الشعور العام في شارع تغلب عليه العاطفة والطيبة والوضوح في التعبير عن المشاعر هو العرفان بالجميل لقطر التي تمتلك قوتين ناعمتين هما المال والإعلام ووظفتهما لمساعدة بلدهم في التحرر من قبضة القذافي الحديدية، ومر وقت قبل أن يكتشف الليبيون أن ما قامت به قطر لم يكن في سبيل الله مثل ما يقال وإنما خدمة لمصالح معينة.
إن حظ محمود جبريل كان أفضل من حظ قائد جيش التحرير ووزير الداخلية الراحل اللواء عبد الفتاح يونس
ما بين مايو (أيار) وأغسطس (آب) 2011 أنتقلت لشرق ليبيا لملاحقة التطورات الدبلوماسية والسياسية في بنغازي التي تحولت لعاصمة ثانية تستقبل القادة والوفود من مختلف أنحاء العالم، وكذالك مستجدات المواجهات الميدانية في الجبهة الشرقية وزحف قوات المعارضة نحو سرت والعاصمة طرابلس غربا.
مسافة محدودة كانت تفصل بين قوات القدافي والمعارضة عند منتصف الطريق بين أجدابيا والبريقة ومن وقت لآخر تحدث مناوشات محدودة، بيد أن الجمود على الجبهة استمر لأسابيع وبدأ الاحباط والشعور باليأس وغيرهما من مظاهر ضعف المعنويات تنتشر في صفوف الثوار ومع اقتراب شهر رمضان وارتفاع درجات الحرارة في تلك البيئة القاسية كان على اللواء يونس أن يفعل شيئا، أن يحرك ساكنا حتى لا تعود كتائب القذافي على الأقل لتشكل خطرا على أجدابيا وبنغازي، في حين أنها كانت في موقف دفاعي لصد هجمات المعارضة المسلحة ومحاولتها اقتحام البريقة.
أقترح اللواء يونس خلال حضوره اجتماعات في روما مع مسؤولين عسكريين في الناتو وبعض اللجان التابعة لمجموعة أصدقاء ليبيا، خطة للخروج من هذا الجمود تأخذ بعين الاعتبار الهواجس التي بدأت تغذيها تقارير أجهزة الاستخبارات وهي تحذر من الاستمرار في تسليح مقاتلي معارضة القذافي لوجود آلاف من المتطرفين والمطلوبين بقضايا إرهاب ضمن صفوفها.
قدم يونس خطة ستتيح الحصول على المزيد من إمدادات الأسلحة والذخيرة وشرح كيف سيمنع الكتائب المسلحة من الحصول على معدات متوسطة وعتاد حربي ثقيل على أن يبقى التعاون في تبادل المعلومات مع العسكريين المهنيين المنشقين فقط حتى لا تستفيد منه الجماعات المتطرفة.
شاركت قطر معلومات عن تفاصيل الخطة قادة إسلاميين بارزين في شرق ليبيا من بينهم اسماعيل الصلابي آمر كتيبة 17 فبراير، ومحمد الزهاوي وزياد بلعم والشركسي وأسامة بن حميد، لحرمانهم من السلاح والذخيرة وبدونهما لن يكون لمقاتلين بلا مؤهلات غير السنوات الطويلة في سجون القذافي وجبال باكستان وافغانستان مكانة في لبيبا المستقبل.
تمت محاصرة عبد الفتاح يونس في غرفة العمليات الرئيسية قرب بوابة أجدابيا برتل يضم مائة عربة نصبت على متنها راجمات صواريخ غراد وأجبروه على الخروج بذريعة استدعائه لتحقيق قضائي، وفي معسكر تابع لمرتبطين بتنظيم القاعدة الإرهابي أعدم بوابل من الرصاص وتم حرق جثمانه والتمثيل به قبل رميه في غابة قرب بنغازي.
الواقعتان أثّرتا كثيرا في المشهد الليبي.
ان منع قيام جيش وطني قوي قادر على مواجهة الأخطار المحدقة وفي مقدمها فوضى السلاح والميليشيات وكذالك انتخاب حكومة مدنية ديمقراطية قد تنجح في إعادة الاستقرار لتؤسس لمرحلة جديدة في ليبيا الغنية بالنفط والغاز وأبوابها مشرعة على سوقين كبيرين للطاقة هما أوروبا وأفريقيا، كان نتاج التدخلات القطرية في ليبيا.
وانزلقت ليبيا تدريجيا نحو فوضى دموية بعد هدوء واستقرار نسبي أعقب الإطاحة بنظام القذافي.
صحيح أن الناخبين الذين صوتوا بكثافة في انتخابات 2012 للقوى الوطنية والتقدمية ومنحوا الإخوان والتيارات الأصولية أقل من ثلث الأصوات المعبر عنها، رغم تقدمهم في تونس ومصر المجاورتين، تمكنوا من فرض إرادتهم في صناديق الاقتراع، بيد أن هذه الإرادة بقيت داخل مكاتب التصويت التي تحاصرها الميليشيات الأصولية.
كان الدعم القطري للإسلام السياسي المناوئ لمشروع الأغلبية في ليبيا، وهو بناء دولة مدنية ديمقراطية موحدة واضحا عبر الإعلام وغيره.
بيد أن كل هذا لم يمنح حزب الوطن الذي أسسه عبد الحكيم بلحاج أحد مؤسسي الجماعة الليبية المقاتلة المرتبطة بتنظيم القاعدة ولا حزب العدالة والبناء فرع تنظيم الإخوان في ليبيا سوى عدد محدود من المقاعد في المؤتمر الوطني العام، وبقية تفاصيل القصة معروفة؛ استخدام المال والسلاح لبناء تحالفات برلمانية تمنع الفائزين بالأغلبية من تشكيل حكومة.
خلال انتخابات 2012 كنت في بنغازي، وقد لاحظ المراقبون كيف صوتت المدينة بكثافة لصالح تحالف القوى الوطنية وتم الانتقام من بنغازي التي خذلت الإخوان وإخوان الإخوان من التكفيريين بتركيز نشاط الأذرع العسكرية لهذه الجماعات فيها وتحويلها لساحة "جهاد" دموي من أجل إقامة إمارة دينية على الضفة الجنوبية للمتوسط.
أنصار الشريعة "القاعدة" و"داعش" والدروع توحدت جميعها في شورى بنغازي لمواجهة عملية الكرامة بقيادة المشير خليفة حفتر وهذا المجلس، رغم أنه يتشكل من خلطة إرهابية غير غريبة وشهيرة دعمه الإعلام في قطر على أنه "ثوار بنغازي".
ورغم هذا الدعم فشل تنصيب حكومة أصولية وإنشاء شركات "أوف شور" لإدارة النفط والغاز والأصول الليبية الهائلة في الخارج، فتسارعت وتيرة صوملة البلاد حتى أصبحت دولة فاشلة.
ومثل ما أحتضنت قبائل برقة الجيش وأنخرطت في معركة الكرامة لطرد شذاذ الأفاق والقتلة ومصاصي الدماء من بنغازي رحبت أيضا بمؤسسات البلاد الشرعية ووفرت لها الحماية.
لقد شكل الدعم القطري وسيلة ضغط على حكومتي عبد الرحيم الكيب وعلي زيدان ما نتج عنه حصول ميليشيات على مئات ملايين الدولار من عائدات النفط الليبي وتشكيل قوات الدروع ومجالس للشورى في بنغازي ودرنة وأجدابيا ومن ثم بسط السيطرة على منطقة الهلال النفطي وكل المواقع التي توجد فيها احتياطات من النفط والغاز وكذالك المعابر الحدودية مع دول الجوار خاصة الجنوبية منها، ما ساعد المتشددين في ليبيا على مد الجماعات المسلحة بشمال مالي وباقي الساحل الأفريقي بشحنات من السلاح والذخيرة والسيارات الرباعية الدفع، وعندما شنت فرنسا حملة عسكرية جوية وبرية لإنهاء سيطرتهم على نصف مساحة مالي شكلت ليبيا الملاذ الآمن لأكثر القيادات الإرهابية خطورة مختار بلمختار وعدد كبير من مقاتليه.
ومع تمدد داعش في ليبيا وتدفق عشرات آلاف من المهاجرين الأفارقة غير الشرعيين على السواحل الإيطالية واحتدام الاحتراب بين المليشيات في العاصمة طرابلس واشتداد الانقسام المؤسساتي بحيث أصبح لكل طرف من فرقاء النزاع برلمانا وحكومة ومصرفا مركزيا وشركة للنفط ومؤسسة لتسيير الاستثمارات الليبية الهائلة في الخارج كان على المجتمع الدولي أن يفعل شيئا ما لمنع قيام إمارة إسلامية داعشية على الضفة الجنوبية للمتوسط واستمرار الاقتتال الأهلي في طرابلس وبنغازي والجنوب لفترة طويلة وكذالك لدرء المخاطر الناجمة عن هذه الفوضى الدموية على جيران ليبيا، دعت الأمم لمباحثات سلام يشارك فيها جميع ممثلي الصراع الدامي على السلطة والمال، وقد تابعت على مدى عامين تقريبا في الصخيرات وجنيف وتونس ومالطا اجتماعات توجت بالتوقيع على اتفاق سلام وتشكيل مجلس رئاسي وحكومة وحدة وطنية وقد ساندت السعودية والإمارات والمغرب جهود مبعوث الأمم المتحدة ولعب الأمير منصور بن ناصر مستشار الملك الراحل عبد الله بن عبد العزيز وياسين المنصوري مستشار العاهل المغربي الملك محمد السادس دورا كبيرا في التحضير لجولات التفاوض الماراثونية في منتجع الصخيرات قرب الرباط والتي استمرت على مدى سنة كاملة تقريبا.
إن عقدة المفاوضات كانت دوما حصة الإسلاميين – الذين تدعمهم قطر- من ليبيا وتمسك المفاوضين عنهم في جولات الحوار السياسي بضرورة منح قيادات اصولية لها خبرات طويلة في العمل المسلح والحياة في السجون صلاحيات الدفاع والأمن وتدبير المال العام !!
ضغوط دولية واقليمية دفعت الفرقاء في النهاية لتوقيع اتفاق سلام وتشكيل مجلس رئاسي وحكومة وفاق وطني تدير البلاد، لكن هذه الحكومة لم تتمكن حتى اليوم من بسط سيطرتها على العاصمة التي تتقاسمها مع حكومة منافسة تدعمها قطر المنخرطة بقوة في الشأن الليبي، فيما تتعاطى السعودية كدولة مؤسسات مع الأفرقاء الليبيين عبر السفارات والبعثات الدبلوماسية لدى المنظمات الدولية والإقليمية ونأت بنفسها عن النزاع الليبي حتى قبل سقوط القذافي الذي يعرف الجميع موقفه من المملكة.
وقد سعت الإمارات العربية المتحدة لتذليل العقبات التي تحول دون تطبيق كامل للاتفاق السياسي المبرم في الصخيرات المغربية وجمع الشيخ محمد بن زايد ولي عهد أبوظبي رئيس المجلس الرئاسي المعترف به دوليا فايز السراج مع المشير خليفة حفتر قائد الجيش المعين من طرف البرلمان المعترف به والمنتخب في آخر انتخابات تجري في ليبيا.
ان نجاح الدبلوماسية الإمارتية في ليبيا بدأ بتبني الأمم المتحدة والدول الكبرى مسودة اتفاق ساهمت بذكاء في تفكيك منظومة الإسلام السياسي في العاصمة طرابلس وغرب ووسط البلاد وإلى حد ما جزء من الجنوب.
هذه المنظومة التي كانت موحدة سياسيا في المؤتمر الوطني العام المنتهية صلاحيته وعسكريا في تحالف فجر ليبيا أصبحت جزءا من الماضي حيث أنقسمت القوى السياسية والعسكرية المنضوية في هذه المنظومة منذ 17 ديسمبر(كانون الاول) 2015.
وبما أن اتفاق السراج – حفتر في أبوظبي يعزل من أنضم من الإسلاميين إلى الاتفاق السياسي للحصول على مناصب في حكومة الوفاق ومنافع مالية تتخبط السياسة القطرية في ليبيا وتفقد زمام المبادرة خاصة مع سحب فريق الرئيس الأميركي دونالد ترمب الملف الليبي من الدوحة وتحذيرها من الاستمرار في تأجيج الصراع ودعم تنظيمات متطرفة لا تؤمن بالقواعد الديمقراطية والانتقال السلمي للسلطة.
انتهت مهمة ديبورا جونز سفيرة أوباما وكلينتون في طرابلس وعادت للولايات المتحدة، بيد أن سياسة التقسيم والفوضى وخلط الأوراق التي رسمتها واصلت قطر تنفيذها دون أن تتمكن حتى الأن من نقلها لمصر وإنهاء الدولة الوطنية القوية وزعزعة أمنها القومي وشغل جيشها عن وظيفته الرئيسية بفتن لا معنى لها ونقل الفوضى في الشرق الأوسط لجميع دول شمال أفريقيا.
* صحافي متابع للشأن الليبي