آراء أخرى

لماذا لا يسعد المصريون بالأخبار السعيدة؟

عبد المنعم سعيد يكتب مقال بعنوان (لماذا لا يسعد المصريون بالأخبار السعيدة؟ )
عنوان المقال مشتق من عنوان مشابه جاء فى مقال نشرته الصحيفة الإلكترونية الأمريكية «المونيتور» أو «المراقب» والتى تراقب وتتابع «نبض» دول منطقة الشرق الأوسط ومنها مصر. ما رأته الصحيفة استنادًا إلى تقرير صندوق النقد الدولى الأخير عن مصر والذى يلخص تجربة السنوات الأخيرة من الإصلاح الاقتصادى المصرى بالتعاون مع الصندوق الذى منح قرضا قدره ١٢ مليار دولار. هذه المرة صدقت مصر وعدها، ولم تهرب فى منتصف الطريق، وفى نهاية التجربة فإن كافة المؤشرات الكلية للاقتصاد المصرى تحسنت بشكل ملحوظ سواء بصورة مطلقة أو بنسبتها إلى الناتج المحلى الإجمالى. وسواء كان المؤشر له علاقة بعجز الموازنة أو الاحتياطيات القومية، أو التضخم أو البطالة أو حجم الصادرات فإنها تسير فى اتجاهات إيجابية. وتدريجيا بدأت مكانة وترتيب مصر فى المؤشرات الدولية المعتمدة تتحسن هى الأخرى؛ وسواء كان المؤشر عن ممارسة الأعمال أو التنافسية أو مكافحة الفساد فإن مصر ظلت تتحرك مرتبة بعد مرتبة ودرجة بعد درجة. وبأشكال عدة فإن مصر التى بدت فى أعقاب ثوراتها مثل المريض الشاحب العاجز عن الحركة والذى يعانى من أعراض أزمة صحية حادة، وإن مشهدها الحالى دبت فيه الدماء مرة أخرى، ونمت قدراتها على الحركة والمضى قدمًا. وعندما بدأت مصر برنامجها الإصلاحى الفعلى بتعويم العملة المصرية كان فى الأمر صدمة كبرى بعد اكتشاف الحقائق المرة لواقع القيمة الفعلية للجنيه ومعه القيمة الحقيقية للاقتصاد المصرى كله. انخفضت ثروة المصريين للنصف، وارتفعت الأسعار فى تضخم فلكى، وبدأت التنبؤات تأخذ قيمة الجنيه مقابل الدولار إلى عشرين جنيها فى القريب العاجل، وجرت النبوءة إلى أن ثلاثين جنيها مقابل الدولار يمكن أن تحدث قبل غروب شمس شهور قليلة.

.. المدهش الآن أن الحالة باتت عكسية وبعد ارتفاع قيمة الجنيه إلى أكثر قليلا من ١٦ جنيها للدولار، فإن كثرة تتساءل عما إذا كان قريبا الوصول إلى عشرة جنيهات للدولار؟! والواضح أنه بقدر ما كان التشاؤم مبالغًا فيه، فإن التفاؤل الآن لا ينبغى له أن يكون أيضًا أكثر مما هو واجب فى اقتصاد بات «طبيعيا» ربما أكثر من أى وقت مضى.

«المونيتور» ورفاقها فى الصحافة الأمريكية أدركت الكثير من هذه الحقائق مع إغفال أو غفلة عن القصة المصرية كلها والتى تمت على مرحلتين: الأولى تحريك الاقتصاد والتى جاءت فى أعقاب ثورة يونيو مباشرة ومع تشكيل وزارة الدكتور حازم الببلاوى والتى حصل فى وقتها المشير عبدالفتاح السيسى على تفويض بفض الاعتصام الإخوانى، ووضع دستور ٢٠١٤، ووضع د. أحمد جلال، وزير المالية آنذاك، برنامجا للإنعاش الاقتصادى اعتمد على مدخرات حرب الخليج، والمعونات الكريمة للأشقاء فى السعودية والإمارات والكويت. واستمرت حالة الإنعاش مع انتخاب الرئيس السيسى للفترة الأولى حيث كان مشروع قناة السويس الجديدة وشبه الاكتتاب الشعبى بشأنها، مع مشروعات الطرق والكهرباء وعدد آخر من مشروعات البنية الأساسية هى التى جعلت مصر مستعدة للإصلاح الاقتصادى الجدى بالاتفاق مع صندوق النقد الدولى والتى شكلت المرحلة الثانية للإصلاح الاقتصادى التى انتهت مع إصدار التقرير المشار إليه والنتائج التى وصلنا إليها. والآن فإن مصر أصبحت على أبواب المرحلة الثالثة فى مسيرتها الشاقة نحو التنمية الشاملة بعد أن فتحت باب إصلاح التعليم والتأمين الصحى، وكلها أخبار تبعث على التفاؤل، ولكن الصحف الأجنبية على ضوء ما جرى من أحداث ومظاهرات منذ شهر تقريبًا ترى أن الأخبار السعيدة تسير فى جانب، والمصريين يسيرون فى جانب آخر لا يجد فى الأنباء ما يسعد. والغالب على وسائل الإعلام هذه أمران: الأول أن «الربيع العربى» لم ينته بعد، فإرهاصاته هذا العام فقط جاءت فى السودان والجزائر والعراق، فلماذا لا تضاف مصر أيضا إلى القائمة؟ والثانى أن الإصلاح الاقتصادى تسير أخباره السعيدة فى جانب، بينما يسير المصريون فى الاتجاه المضاد من المعاناة المجسدة فى البطالة والتضخم واغتراب الشباب.

إذا أخذنا تعبير «الربيع العربى» ليس باعتباره «ثورة»، وليس باعتباره «عملية» أو «مؤامرة»، وإنما باعتباره حالة من شعور الجماهير بالقوة نتيجة تجمعها بأعداد كبيرة، فإن ذلك ربما يهدينا إلى حل عقدة نوعية العلاقة بين الجماهير والأخبار السعيدة. فالحقيقة أنه من الصعب إرجاع حالة الجماهير إلى مظاهر اقتصادية تمس حال الفقراء أو الطبقة الوسطى إذا ما أخذنا فى الاعتبار تخلص الجماهير من أزمات الخبز والكهرباء والطاقة فى عمومها ودخول الغاز إلى المنازل وانخفاض التضخم والبطالة. ومع معدل نمو قدره ٥.٦٪، ورغم تنبؤات صندوق النقد الدولى للاقتصاد العالمى بالانخفاض إلى ٣٪ فإن تقديراته بالنسبة لمصر تصل إلى ٥.٩٪ خلال العام المالى القادم، وإن ذلك يعنى عمليا أن كل من كانت لديه مهارة أو تعليم أو قدرة واستعداد للعمل سوف يجد مكانا فى سوق العاملين.

وبالطبع فإن هناك قوى معادية يقع فى مقدمتها الإخوان المسلمين لا تكف عن التشكيك فى حجم ومدى ما جرى خلال الفترة الماضية وما يفتحه من آفاق مستقبلية؛ كما أنها لا تكف على مدار ساعات اليوم عن محاولة بث الفرقة بين الشعب وقواته المسلحة. ولكن ذلك لا يعنى أن هناك حاجة لبذل مزيد من الجهد أولًا لرفع معدل النمو إلى مستويات أعلى وحتى تتجاوز ٨٪ كما جرى الحال فى بلاد قبلنا والتى قامت على حل المعضلة الأزلية للتوازن ما بين الأمن فى ناحية والحرية والتنمية فى ناحية أخرى. وثانيًا فإن الأزمة التى اعتدنا على صياغتها فى أطر اقتصادية قد آن الأوان للتعامل معها فى أطر سياسية تبدأ من المحليات حتى تصل إلى المستوى القومى، وتفاصيل ذلك فى المؤسسات والسلطات والإعلام والأحزاب والنظم الانتخابية. وثالثًا أنه آن الأوان للخروج من مرحلة الانطباعات لفهم ما جرى فى يناير ٢٠١١ الذى حدث فى ظل حالة من الرواج الاقتصادى، والانفتاح الإعلامى النسبى الذى نجم عن سبق التكنولوجيا الفضائية والإلكترونية لقدرات الدولة والأمن فى التعامل معها. ورابعًا لقد فشلت حتى الآن كل محاولات الإخوان لشق فجوة بين الشعب والجيش؛ ولكن هذا الفشل لا يعنى نهاية المحاولات، ولا يعفى أحدا من ضرورة حماية هذه العلاقة وتغذيتها ليس فقط بالمشاعر التى بين الشعب وأبنائه، أو بالتاريخ الذى يشهد بالدوام منذ محمد على الكبير حتى الآن، أو بالدور المهم الذى قامت به القوات المسلحة خلال المرحلة الراهنة فى الإنعاش والبناء، وإنما برؤيتها فى ظروف عصرها الحديث الذى يقوم على قيام كل طرف من أطراف الأمة بالوظيفة المؤهل لها.

زر الذهاب إلى الأعلى