نشر موقع الشروق الإخباري مقال لأستاذ طب الأطفال ” هنا أبوالغار ” بعنوان “احذروا فأنتم تحترقون” جاء على النحو الآتي :-
إحساس بأنك مسجون فى تفاصيل يومية، بأن يومك كله ملك لروتين أصبح مع الوقت يسيطر على حياتك. تصحو من النوم بدون نشاط وكأنك لم تنم، تقضى اليوم كله تنتظر انتهاءه، تبحث عن شعلة الشغف والطاقة التى كانت تملؤك فى الماضى فلا تجدها، استُبدلت بإنهاك جسدى وألم فى كل عضلاتك، الصداع زائر متكرر وعنيد، والأكل أصبح ساحة معركة فأنت تأكل بسرعة وعنف وكأنك تنتقم أو تتفاداه وكأن بينكما عداوة. وطبعا لا ننسى الانفلونزا التى كلما شفيت منها تستغل فرصة انخفاض مناعتك فتعود لتسكن الجسد.
جسدك لا يشكو وحده، فنفسك أيضا غير راضية، إحساسك بعدم التحقيق أو الفشل فى المهنة أو حياتك الاجتماعية كزوج أو أب أو صديق أو حتى كإنسان كان يحس أن له قدرة على تغيير محيطه يملؤك، تقاوم هذه الأحاسيس بهدف واحد وهو أن تستيقظ غدا لتبدأ يوما آخر فى نفس سجن التفاصيل والروتين والواجبات، نفس الساقية التى تدور فلا تصل إلى مكان به راحة أو رضا. الهزيمة تبدأ فى التسرب إلى وجدانك وتستبدل العزيمة التى توقظك كل يوم نشيطا، بعدم اكتراث وانفصال عن ما كان يوما عالمك لكنه لم يعد سوى «تدبيسة»، وتدرك أن لديك التزامات مادية وأخلاقية نحو عملك وإن تغيير حياتك صعب بل قد يبدو مستحيلا، يملؤك التشاؤم من غد أفضل وتدريجيا تبدأ أن تنفصل عن العالم، فتتفادى أن تفتح لنفسك نوافذ جديدة بعملك كان من الممكن أن تنمو من خلالها إنسانيا ومهنيا، تعتذر عن أى أنشطة اجتماعية أو تفاعل مع أحبة فطاقتك فى العطاء قليلة وهو ما يزيد من إحساسك بالفشل كإنسان. ترى كل شىء بنظارة متشائمة وسلبية وتتحول من شخص يرى الجمال فى الأمكنة والبشر بدلا من التركيز على القبح إلى شخص غاضب غير راضٍ عن حاضره ولا متفائل بتغييره فى المستقبل.
شخصيتك المهنية تتحول من شخص مجتهد طموح جدير بالمسئولية إلى شخص يتنصل من كل ما كان يقوم به سابقا فى عمله وأحيانا يمتد هذا إلى حياته الاجتماعية أيضا، كل شىء مؤجل «هاخلص التقرير بكرة»، «هازور ماما بكرة»، «هكلم صديقى بكرة». وياحبذا لو ظهر أو اختلق عذرا لعدم الذهاب للعمل أصلا، أو إلقاء جزء منه على الآخرين بشكل متكرر وبمبررات واهية. يصاحب هذا تراكم كم كبير من المشاعر السلبية بداخلك تجعلك شخصا عصبيا، وتخرج مشاعرك فى صورة نوبات غضب وانفعال لا تتماشى مع شخصيتك السابقة.
***
فى ٢٠١٩ أدرجت منظمة الصحة العالمية «الاحتراق ــ Burnout» كإحدى اصابات العمل التى تستلزم إجازة براتب وعلاج على نفقة العمل. وهى أعراض تم ملاحظتها ووصفها علميا فى بداية الألفية الحالية.
كلنا نتعرض لفترات ضغط زائد بالعمل (Stress) وهو أمر طبيعى من آن لآخر فى أى مهنة (مشروع جديد، مؤتمر يتم التحضير له، شهادة جودة نود أن تحصل عليها الشركة، المنافسة على الترقى لوظيفة أعلى.. إلخ) وهو مفيد إذا كان وقتى وتكراره متباعدا، فهو يحفزنا ويشجعنا على رفع كفاءتنا وعطائنا المهنى ويعطينا جرعة حماس لأن التحدى يصاحبه شعور بالتنافس مع النفس والغير وفرصة للاستمتاع بطعم النجاح، كما أن هذا الضغط يجعلنا نختبر قدراتنا الذهنية والإبداعية ونأخذها إلى أقصى نقطة. أهم فارق بين «الضغط المقبول» و«الاحتراق» هو طول مدته، فالضغط المقبول فى ظروف العمل أو داخل الأسرة يكون وقتيا وحتى إذا كان يتكرر مع ظهور مشروعات أو أهداف مهنية جديدة فهو غير دائم وله نقطة نهاية. أما الاحتراق فهو مصاحب لوضع داخل مكان العمل أو فى المنزل يتطلب جهدا وعطاءً مستمرين ولا ينتهى ولا يصاحبه شغف ولا حماس ولا تقدير يجعله يستحق أن يخطف منا سنوات العمر، هو استثمار فى مهام عادة ما تكون روتينية ومتكررة قليلة الإبداع ولن تتغير، وجو اجتماعى داخل مكان العمل جاف وبارد، ولذلك يولد رد فعل سلبى أغلبه لا مبالاة وعدم اكتراث وإحساس بقلة الحيلة. وإذا كان «الضغط» مع تكراره قد يولد عند الشخص مرض «التوتر anxiety» فالاحتراق يقترن أكثر بمرض «الاكتئاب depression».
الاحتراق لا يرتبط بالضرورة بالعمل المهنى، فهو يحدث فى أى ظرف فيه عمل شاق قليل التقدير، فالموظف الذى لا يحصل على إجازات ولا علاوات ومكان عمله ليس به تقدير لجهده مثله مثل الأم التى تعمل داخل بيتها لخدمة أبنائها وزوجها وقد تكون بالإضافة تخدم شخصا كبيرا فى السن فى محيط الأسرة، هذه الوظيفة ليس لها مواعيد ولا إجازات ولا مرتب ولا تقدير ملموس وليس بها تأمين حقيقى لمستقبلها حين تكبر فى السن ولا تستطيع مواصلة هذا العطاء، بالإضافة إلى أنها محرومة من الترقى والأمل فى اكتساب خبرات جديدة أو الانتقال لعمل مختلف ومتجدد وبالتالى فالزوجات فى مجتمعاتنا من أكثر الفئات التى تصاب بالاحتراق.
***
مع دخولنا عصر التكنولوجيا زاد الإصابة بالاحتراق بشكل مبالغ فيه حيث إن عملنا والتزاماتنا وهمومنا لا تتركنا لحظة، فهى تخترق بيوتنا وحياتنا العائلية، أثناء الرياضة أو القراءة حتى ونحن نتعبد فإن مجرد معرفتنا بأن تليفوننا المحمول متاح لأى شخص ليرسل رسالة أو بريدا إلكترونيا فيسأل سؤال أو يطلب طلبا أو يعاتبنا على تقصير أو يضع علينا ضغطا مهنيا (أو اجتماعيا) من أى نوع وأننا فى لحظة معينة سنقرأ هذه الرسالة لا مفر، هذه الحقيقة اخترقت خصوصية الإنسان وسلبته أدق لحظات يومه التى يشحن فيها طاقته. وحتى لو قرر أن يتجاهل هذه الآلة فإن ثقافة العمل الحالية والمجتمع سيجعله يدفع ثمنا غاليا من فرصة فى النجاح لأنه لم يكن متاحا وقت أن كان مطلوبا أن يتم الوصول إليه حتى إذا كان ذلك خارج أوقات العمل وفى الإجازات والنتيجة أنه لا ساعات راحة ولا وقت فراغ ولا حرية فى التخطيط لأنشطة خارج إطار الوظيفة.
نسمع كل يوم عن شباب غير مهنته بحثا عن السعادة، شباب قرر أن يترك أسرته والقاهرة ويبدأ حياته فى مكان آخر داخل أو خارج مصر بعيدا عن مدينتنا وحياتنا العصرية التى أصبحت تثقل الروح والجسد، نسمع عن جيل وسط ناجح جدا لكنه يختار مسارا جديدا لحياته فيترك موقعه المتميز فى مهنته لشخص آخر يديره، أو يبيع مشروعه الناجح ويقلل من حجم عمله. فى أعيننا تبدو قرارات غريبة وصادمة وأحيانا نراها خاطئة، ولا نفكر للحظة فى مراجعة مدى رضانا عن جودة حياتنا وهل فعلا ننعم بالسعادة والراحة ونستمتع بالحياة؟ هل نقضى وقتا كافيا فى الطبيعة، هل نذوق متعة العمل العام والعطاء للغير؟ هل نقضى وقتا كافيا مع أحبائنا لنشحن الذاكرة بلحظات أغلى من أغلى خاتم أو موبايل؟ هل عندما نطمئن على قدرتنا المادية لتوفير كل ما يحلم به أبناؤنا من «حياة عصرية» هل سنكون أعطيناهم أهم شىء وهو وقتنا واهتمامنا وقيمنا؟. نحن نرث ممن سبقونا الكثير، حتى مقاييس النجاح وسبل السعادة والأحلام نفسها إرث، لكننا للأسف لم نرث نفس ظروف الحياة، فما تبقى من الزمن الذى ورثنا منه مقاييس النجاح هذه يكاد يكون لا شىء، وأصبح مطلوبا أن نعيد قراءة ظروفنا لنرسم أحلاما جديدة أكثر تناسبا مع واقعنا حتى لو كانت هذه الأحلام تنحصر فى لحظات رضا وراحة واستمتاع بأحبائنا على حساب «المنصب» و«الترقى» و«الحساب فى البنك» و إلا فسنموت «محترقين» بحثا عن سراب.