مقال للكاتب المتخصص في الشئون الأمريكية محمد المنشاوي بعنوان ” أمريكا ليست دولة للبيض فقط ” جاء على النحو الآتي :-
دفعت التطورات المتسارعة التى تشهدها قضية الهجرة داخل الولايات المتحدة لإضفاء المزيد من الإثارة على النقاش والجدل المتعلق بإحدى القضايا التى يهتم بها الأمريكيون خاصة من يتجه منهم إلى صناديق الاقتراع، فقد أعلنت إدارة ترامب عن قواعد جديدة تحرم المهاجرين الذين يتلقون معونات حكومية تتضمن رعاية صحية مجانية أو كوبونات للحصول على مواد غذائية أو الحصول على سكن مدعم من حق الحصول على الإقامة الدائمة (الجرين كارت) ومن ثم التقدم للحصول على الجنسية الأمريكية.
ورافق هذه القرارات تلاعب رئيس إدارة الهجرة بالوكالة كين كوتشينيللى بكلمات قصيدة شهيرة منحوتة على قاعدة تمثال الحرية عند مدخل مدينة نيويورك البحرى للشاعرة إما لازاروس. وقال كوتشينيللى أن المقصود من كلمات القصيدة التى تقول كلماتها «تعالوا إلى أيها المتعبون والفقراء والجموع الحاشدة التواقة إلى استنشاق الحرية، والبائسون المهملون الذين يملأون الشطآن» هم المهاجرون الأوروبيون الذين يستطيعون الوقوف على أرجلهم ولن يتحولوا إلى عالة على الحكومة الأمريكية. وفى الوقت الذى هاجم فيه ساسة ديمقراطيون وجمهوريون كوتشينيللى، دافع الرئيس دونالد ترامب عنه بالقول «الأمر يتعلق بأمريكا أولا. لا أعتقد أنه من الإنصاف أن نجعل دافع الضرائب الأمريكى يدفع كى يأتى الناس إلى الولايات المتحدة». وقبل ذلك زادت قوة تيار متشدد لا يعارضه ترامب ويطالب بإلغاء التعديل الدستورى رقم 14، والذى يقضى بمنح الجنسیة الأمريكیة تلقائیا لأى طفل يولد داخل الحدود الأمريكیة. وطبقا للدستور، من حق أى طفل يولد على الأراضى الأمريكیة أن يحصل على الجنسیة بغض النظر عن جنسیة والديه باستثناء حالة أعضاء البعثات الدبلوماسیة الأجنبیة ويثیر ھذا الحق (الحصول على الجنسیة بالمیلاد) تباينا وجدلا بین الأمريكیین، حیث يجوز من خلال ھذا الحق أن يحصل ابن أو ابنة لأسرة مقیمة بصورة غیر شرعیة فى الولايات المتحدة على الجنسية، فى الوقت الذى لا يستطیع الوالدان الحصول على أى أوراق أو وثائق حكومیة مثل رخصة القیادة أو بطاقة هوية. لكن الطفل فى هذه الحالة يحصل على شهادة ميلاد رسمية من الحكومة الأمريكية، ويستطیع أن يستخرج أهله له جواز سفر أمريكيا، ويحق لهذا الطفل بعد بلوغه السن القانونیة (18 عاما) أن يطلب حق الإقامة ومن بعده التجنس (بعد مرور 3 ــ 5 سنوات) لوالديه وإخوته.
أشعل ترامب منذ وصوله للبیت الأبیض حروبا ثقافیة أمريكیة أهلية داخلیة على خلفیة قضايا تتعلق بهوية أمريكا ومعنى أن تكون أمريكیا. وجاءت قضیة الهجرة على رأس هذه القضايا، ووسط الجدل الحالى والمستمر منذ شهور حول معاناة الأطفال عند الحدود المكسیكیة، ما زال يعبر الحدود الأمريكیة سنويا ما يقرب من ملیون مهاجر غیر شرعى من نفس الحدود، فى ذات الوقت التى ترحل فیه السلطات الفیدرالیة ما يقرب من 350 ألف مهاجر غیر شرعى أغلبهم من المكسیك تستقبل أمريكا ما يقرب من 900 ألف مهاجر شرعى سنويا. يعكس تفاقم قضیة الهجرة وتبعاتها معضلة تغییرات متناقضة شديدة الأهمية يشهدها المجتمع الأمريكى خلال السنوات الأخیرة مع تشدد أنصار سياسات التشدد ضد المهاجرين الشرعيين وغير الشرعيين، وما يقابله من تحد ليبرالى يطالب بمقاومة هذا التشدد.
لكن السؤال الأكبر والأهم يتعلق بالسؤال الفلسفى الذى يحبذه أنصار سمو الجنس الأبيض ويتعلق بأن أمريكا دولة بيضاء.
يتناسى أنصار هذا التيار أن هذا الجزء من العالم (أمريكا الشمالية والجنوبية) والذى تم اكتشافه قبل قرون قليلة لم يعرف وجود سكان من ذوى البشرة البيضاء، بل على العكس فأن سكانه الأصليون لهم بشرة بنية اللون فى الشمال والجنوب وبشرة سوداء اللون فى الوسط. وتوقع البعض أن أمريكا نشأت متحررة من قيود وأعباء القارة الأوروبية خاصة فيما يتعلق بهويتها وقوميتها ودينها والصراعات المرتبطة بهذه المعضلات. لكن دعوات ترامب وما يقابلها من دعم شعبى كبير يتحدى هذه الادعاءات. نعم تعرف الولايات المتحدة على مدى تاريخها تنازعا مستمرا بين تيارين رئيسيين أولهما لديه رؤية ضيقة ترتبط بقوالب جامدة متعصبة للون بشرتها ولغتها وثقافتها، والأخرى رؤية واسعة ترى بلادها جزءا من عالم متنوع أكبر تقتبس منه وتسهم فى تقدمه الحضارى. ويعكس الخطاب السياسى لإدارة ترامب زخما كبيرا للحركات اليمينية العنصرية منحها انتخاب ترامب قبل عامين ونصف ثقة كبيرة بنفسها وثقة بخطابها وبقادتها وبحجم وجودهم وقوة انتشارهم بين الأمريكيين.
يتناسى هذا التيار ما اقترفه المهاجرون الأوروبيون الأوائل للقارة الأمريكية جرائم وفظائع ضد سكان أمريكا الأصليين وصل معها عددهم إلى أقل من ربع مليون شخص فقط عام 1900. وكان عدد سكان أمريكا من السكان الأصليين يتخطى 12 مليون شخص عندما وصل شواطئها الأوروبيون الأوائل. يقل عدد سكان أمريكا من البيض عن 61% من إجمالى السكان، ولن تعرف هذه النسبة إلا الانخفاض، وهذا ما يدركه ترامب جيدا ويستغله بذكاء سياسى لا يهمه إلا الفوز فى الانتخابات القادمة هدفا. فهل يتحقق مراده. وهذا ما سيعرفه العالم فى نوفمبر بعد القادم؟