وحتى نستهل مقالنا بالاتفاق على معانى المفردات، فإن الشمولية هى الدولة التى تفرض سيطرتها على المجتمع ككل، بما فى ذلك جوانب الحياة العامة والشخصية للأفراد، بالإضافة للسيطرة على الاقتصاد والتعليم والفنون، بل تتدخل بشكل مباشر فى توجيه أخلاقيات المواطنين والتحكم فيها، بينما السلطوية تعنى أن تكون السلطة فى يد شخص أو مجموعة نخبوية تحتكر السلطة والنظام.
ودون أى نوع من الالتفاف أو المواربة سيذهب ذهن القارئ تلقائيا للمرحلة التاريخية ما بعد يوليو 1952، وكأن هذه التعريفات السياسية قد سطرت على أساسها، أو كأنها وصف لها وليست من التعريفات السياسية الدارجة والتى مرت مراحلها على العديد من الدول، منها من اجتازها تماما، ومنها ما لم ينفض كل غبارها بعد، بينما ما زال البعض يعانى من وطأتها إلى الآن. والحقيقة أن الشمولية والسلطوية لا تقترنان دائما بالنظم الاشتراكية فقط، وإنما بأى نظام يدعى امتلاك الحقيقة، واحتكار معرفة مصلحة المواطنين دون غيره، استنادا إلى شعارات جاذبة، وإعلاء لمخاطر محيقة بالوطن تلزم الجميع بالالتفاف حوله، دون التركيز على الكثير من الحقوق التى تهدر، والاستحقاقات التى تدفن، كما نعرف عن الدول الدينية، كما هو الحال فى إيران والمملكة العربية السعودية، أو الجماعات الدينية عند الوصول إلى الحكم كما شهدنا فى السنة التى حكمت فيها جماعة الإخوان المسلمين مصر، أو كما يحدث مع القاعدة فى أفغانستان.
ومن المؤكد أن العقلية الشمولية والسلطوية لا يستأثر بها الحكام فقط، ولكن المثير أنها تتمكن من المحكومين وأنساق التفكير وردود الفعل لديهم، وهى تتفق مع العقلية الدينية من حيث اليقين المؤكد، والإيمان الشديد بما يتبعون، مع النفور المبالغ فيه من أى تيار أو فكر لا يتوافق معهم، بغير سند إلا الشعارات والخطب الرنانة التى يتم إلقاؤها بمناسبة أو بدون، حتى إننا لنجد هذا المواطن يخاف من التغيير أكثر من خوفه من واقعه المر، تبعًا لاعتياده أن هناك من يتخذ له قراراته، ويتحمل أعباء معيشته ويخطط له حاضره ومستقبله.
وهنا تطل العلمانية برأسها فى محاولة لتصويب هذه الأنساق الفكرية الشمولية، سواء كانت على أسس سياسية أو أسس دينية، وقد يحدث الخلط هنا لدى الكثيرين المعتقدين أن العلمانية معناها فقط فصل الدين عن الدولة، وبذلك يمكن أن تتوافق مع بعض الأنظمة الشمولية السياسية، وفى ذلك خطأ كبير لأن العلمانية نسق تفكير يؤمن بالنسبية والتعددية والشك كمرجعيات أولية، مما يؤدى إلى مخرجات مثل تجنيب الدين من الدخول فى الصراع السياسى والاقتصادى، وبالتالى للتعددية السياسية وتداول السلطة ومن ثم الديمقراطية.
وواقع الأمر أننا عانينا فى مصر من النوعين على مر الزمان، سواء من الحكم الدينى وقت أن كان الحاكم ممثلا للخليفة، وبالتالى الوكالة عن الله فى كل عصور الحكم الإسلامى، وهو ما كان متوافقا مع طبيعة العصر والزمن، إلا أن الإخوان المسلمين حاولوا إعادة إنتاجه كحكام، كما يتبعون فى جماعتهم وهياكلهم التنظيمية، كما عانينا من شمولية يوليو السياسية، مما أدى إلى تراكم شمولى فى الذهنية العامة للمواطنين، من رفض الآخر، وتخوين المختلف، والإصرار على إنتاج نظام أبوى يلقون بكل أعبائهم عليه، لأن الاعتياد على عدم تحمل المسؤولية كان وما زال غالبًا كنتيجة حتمية لكل ما فات من ممارسات.
صحيح أن لكل مرحلة ما لها وما عليها، كما أن هناك دائما فوارق بين النوايا وبين النتائج، ولكن ما يعنينا حقا هو التعصب الشديد فى الانتقاد أو الاحتفاء، وذلك ما يجعلنا ننادى بلفظ النسق الشمولى والسلطوى الذى ترسخ لدى المواطنين سواء الرافضين أو الموالين منهم.