قال الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر: إن القمة العالمية لرئيسات البرلمانات لها مردود بالِغ التأثيرِ إقليميا ودوليا لتصديها بالتحليل العلمي لتحدياتٍ كُبرى موجودة على أرضِ الواقِعِ العربيِّ والإسلاميِّ .
وأضاف الطيب خلال كلمته في القمة التي تعقد الآن في العاصمة الإماراتية أبوظبي، أن الإرهاب يمثل التحدي الأبرز أمام هذه القمة بعد أن استشرى خطرُهُ شرقا وغربا.
وفيما يلي نص الكلمة:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحَـفْــلُ الكَــريم!
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. وبعد/
فيسعدني في بداية كلمتي أن أتقدَّم بخالصِ الشُّكر الجزيلِ لـلدكتورة/ أمل عبدالله القبيسي – رئيس المجلس الوطني الاتحادي بدولة الإمارات العربيَّة المُتَّحِدَة، أول رئيس برلمان عربي من السيِّدات، وأول رائدة من بنات العرب تزاحم الرجال في هذا المنصب التشريعي البالغ الأهمية، على نجاحها في استضافة هذه القِمَّة الحادية عشرة لرئيسات برلمانات العالم، بدولة الإمارات، هذه الدولة الفتية الواعدة، التي لا تدخر وسعًا في بذل كل ما يسعد الآخرين، ويشيع السَّلام ويُرسِّخُ قِيَم حُسْن الجوار والاستقرار والعيش المشترك.
ولا أُبالِغ أيُّهَا السيِّداتُ والسَّادَة لو قُلْتُ: إنِّ قِمَّتكُم هذه قِمَّة ذاتُ شأنٌ كبيرٌ، ومردودٍ بالِغِ التأثيرِ على مَنطِقَتِنا الشَّرق أوسَطِيَّة، بل رُبَّمَا على العالَمِ كلِّه، لَيْسَ فقط لأنَّها تختصرُ على أرضِ الإمارات العربيَّة معظم ثقافات العالم، وتعكِسُ خِبْراتِ عقولٍ عالميَّةٍ مُتنوِّعَة، لها وزنها في استشرافِ مُستقبلِ الشعوبِ – ولكِن لأنَّ هذه القِمَّة تتصدَّى بالتحليلِ العلميِّ لتحدياتٍ كُبرى موجودة على أرضِ الواقِعِ العربيِّ والإسلاميِّ.
في مُقدِّمتها: وباءُ الإرهاب الذي استشرى خطرُهُ في شرقِ الأرضِ وغربها، بعد ما ظَنَّ كثيرون مِمَّن صَمَتُوا عن ولادته وأسباب نشأتِه، أنَّه لَنْ يبرح مَوطِنَه الَّذي نشَأ فيه، فإذا به ينشُر الرُّعْبَ والفزعَ بين النَّاس في كلِّ مكان.
كما تتصدَّى القِمَّة لتحَدٍّ آخر، لا يقل خطرًا عن الإرهاب، وهو تحدِّي السِّياسَات الحديثة في إصرارها على العبثِ بوَحْدَةِ الأُمَمِ والشُّعُوبِ، وتصميمِها على تفتيت الدول المستقرة وتفكيكها وتجزئتها، وتحويلها إلى خرائط مُهيَّأة للصِّراعِ الدِّينيِّ والطَّائفيِّ والعِرقي، وساحاتِ حروبٍ مُدَمِّرةٍ، وكأنه كُتِب على منطقتِنا هذه أن تكون سوقًا رابحة لما تنتجه مصانع الأسلحة الفتَّاكة، بعد أن تهيَئ لها السياساتُ الاستعماريَّةُ الجديدة مسارحَ الصِّراع وبُؤرَ التَّوتُّر وتُجَّارَ الحُروبِ.
ولَيْسَ من همنا في هذه الكلمة المحدودة أن نعرض لأسباب هذه الحروب العبثيَّة واللاأخلاقيَّة، ولكن من هَمِّي الأكبر أن اُعَوِّل على قِمَّة تَجمَعُ خمسينَ قائدةً من قائدات برلمانات العالَم أن تسهم في هذه القمة البرلمانية وما يتلوها من قِمَمٍ قادمةٍ في إطفاء هذا الحريق الَّذي لا أتردَّد في وَصْفِه بأنَّه عارٌ على جبين الإنسانية في عصر الديموقراطية والحرية وحقوق الإنسان ومنظمات السلام العالمي والاستقرار المجتمعي..
وقد سمعتم بكل تأكيد عن جريمة الأمس الغادرة التي راح ضحيتها برآء مسالمون كانوا يؤدون صلواتهم في إحدى الكنائس المصرية، وخلَّفت في قلوب المسلمين قبل المسيحيين آلامًا وأحزانًا ليس من السهل تجاوزها ولا نسيانُها، وهذه الجريمة الوحشية ليست بكل تأكيد إيذاءً للمسيحيين في مصر، بل هي إيذاء للمسلمين في شتَّى بقاع العالم، وإلى نبيِّ الإسلام ﷺ في ذكرى مولده الشريف.
وتحدٍّ آخر، يبدو وكأنه خاص بعالَمِنا العَربيِّ والإسلاميِّ، إلَّا أنَّهُ في ضوء التأمُّل الهادِئ، يتضح لنا في مآلاته القريبة أو البعيدة أنه هَمٌ كبيرٌ من همومِ الإنسانيَّةِ جَمْعَاء، وأعني به وضع «المرأة» الإنسانيَّ والحضاريَّ في هذا العصر، وأنا أشْكُر للقائمينَ على هذه القِمَّة تنبُّهَهُم لخطرِ هذا الموضوع، وهو – بلا ريبٍ -موضوعُ السَّاعةِ، ومِن جانبي -كباحثٍ في الإسلامِ – لا أعرفُ موضوعًا آخر استنزفَ من عقولِ العُلَمَاء والمُفكِّرين والباحثين والباحثات، منذ مَطْلَعِ القَرن الماضي وحتى يومنا هذا، ما استنزفه موضوعُ المرأةِ.. وفي مكتبتنا العربية والإسلامية المعاصرة آلاف الكتب والأبحاث والمؤتمرات والندوات التي تناولت موضوع المرأة وقتلته بحثًا ودراسة ومقترحًا، ورغم ذلك يظل هذا الموضوع وكأنه لم يَمْسَسْه فِكْرٌ ولا قَلَمٌ من قبل..
والذي يبدو لي -بعدَ طُولِ نَظَرٍ-في هذه القضية أنَّه يُمكِنُ النظر إليها من زوايا ثلاث:
الزَّاويةُ الأولى: زاوية الإسلام الذي أنصف المرأة المسلمة وحرَّرها من الأغلالِ والقيود التي كبَّلتها بها حضارات معاصرة لظهور الإسلام، وفي مُقدِّمتها: حضارةُ اليونان مُمثَّلَةً في قطبيها الكبيرين: أفلاطون وأرسطو، وشريعةِ الرومان وأديان الهند، وكتبٍ مقدسة حمَّلَتِ المرأةَ وحدَها مسؤوليَّةَ الخطيئةِ الأولى، والجاهليةِ العربيَّة الَّتِي صادرت على المرأة حقَّ الحياة، وحقَّ التعلُّم، وحقَّ التملُّك، وحقَّ الميراث، إلى آخر ما تعلمونه حضراتكم، ويضيقُ الوقتُ عن تذكيركم به.
ولكن أقول: في هذا الجوِّ الخانِقِ للمَرأةِ ظهرَ الإسلام وكانت له كلمته الحاسمة، ولو أنه صمت في ذلكم الوقت عن مظالم المرأة واستذلالها ما توجَّه إليه عَتْبٌ ولا لَوْمٌ، فقد كانت الدنيا بأسرِها ضِدَّ المَرأة وَضِدَّ حقوقها وضِدَّ كرامتها كإنسانٍ، لكنه لم يلبَث أن صَدَعَ في النَّاس بقولهِ تعالى: ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ، ﴿وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لَّتَعْتَدُواْ﴾.
وكان آخر كلماته ﷺ: «النِّسَاءُ شَقَائِقُ الرِّجَال» وأوقف وإلى الأبد وَأْدَ البنات، وملَّكها حقوقًا سبقت بها نظيراتها في العالم بأربعة عشر قرنًا من الزمان.. ملَّكها حق الإرث وحق التعليم وحق اختيار الزوج، وجعل لها ذمة مالية مستقلة عن زوجها، تتصرف فيها تصرف المالك في مِلكه الخالص مع الاحتفاظ باسم عائلتها حتى لا تذوب شخصيتها في شخصية شريكها، وساوى بينها وبين الرجل في التكاليف وتحمل المسئولية، ومعلوم أن هذه الحقوق لابد أن تصنع من المرأةِ عنصرًا خلَّاقًا في المجتمع لا يقل شأنًا عن الرجل إن لم تزد عليه
وصَحَّ أنَّهُ ﷺ قال: «…فَلَوْ كُنْتُ مُفَضِّلا أَحَدًا لَفَضَّلْتُ النِّسَاءَ على الرِّجَال»، وهذا التفضيل ليس من باب جبر الخاطر لضعيفٍ مهضوم الحق، وإنما هو لفتٌ للأنظار إلى ميزاتٍ وخصائص تتفوق فيها النساء وقد يفضلن بها الرجال.
أمَّا الزاويةُ الثانية: فهي الزاوية التي تأثَّرت بالعادات والتقاليد أكثر مِمَّا تأثَّرت بأحكام القُرآن والسُّنَّة والنصوص الصريحة التي ترفع من شأن المرأة ومن قدرها العلمي والاجتماعي والإنساني، وهذه الزاوية أو هذا المذهب كاد يعود بالمرأة في كثير من مظاهر حياتها إلى ما كانت عليه قبل نزول القرآن، فصادر عليها كثيرًا من حقوقها التي كفلها الإسلام للمرأة، واستدعى في نظرته للمرأة فقهًا غريبًا ضرب عليها حصارًا من العُزلة والغُربة، حتى كادت تألف غربتها وعزلتها، وما جاء الإسلام إلا ليحرر المرأة من هذا الحصار، ويلقي بها في قلب المجتمع لتتحمل مسؤولياتها في إعماره وتنميته وتقدمه..
أمَّا الزاويةُ الثَّالثة: فهي زاويةُ الحداثةِ الغربية، المرتبطةِ بمفاهيم خاصة وفلسفات جديدة تنكرت لكثير من القيم الثابتة في تاريخ هذه المجتمعات وعقائدها، وأبادر بالقول –في عبارة موجزة- إنني أفرق تفرقة حاسمة بين الحداثة بكل محاذيرها، والتحديث الذي هو تفاعل واجتهاد وتجديد للتراث الديني والأخلاقي، والإفادة من كنوزه؛ وأن الحداثة بمفهومها الغربي ليست هي الأنموذج الأمثل الذي يستحق تعميمَه وتسويقَه عالميًّا وعولميَّا..
ومع ذلك لا أُريدُ أن أغمط الاتجاه الحداثي حقه، فله إيجابياته في مجال التقدُّم العلمي والإنساني والتِّقَنِي، ونقد العادات والتقاليد التي جاءت الأديان السماوية لإصلاحها وتقويمها، ولكني أريد أن أضع بين أيديكن، وأنتن من أهل التشريع وقادة الرأي، محاذيرَ ثلاثة:
الأول: القول بنسبية الأخلاق، واستبعاد المُقدَّس الدِّيني من منظومة الأخلاق الحاكمة، وإسناد الأمر فيها إلى الفرد بكلِّ ما يحكُمُه من رَغَباتٍ وأهواء، والرأي عندي أن إقصاء الدين عن المجتمع يعني أن الإنسان يعيشُ على هامش الحياة ولا يستطيع أن يراها على حقيقتها.
الثاني: أن تهميش دور الأسرة في التنشئة الاجتماعية، وإحالة هذا الدور إلى وظائف تقوم بها مؤسَّسات وشركات بديلة عن الأسرة يفضي إلى مجتمعٍ بلا عواطف ولا علاقات اجتماعية ولا انتماءاتٍ إنسانيَّةٍ، بل يَفضِي به –عاجلًا أو آجلًا- إلى مجتمع فاقد للتوازن النفسي والتراحم الاجتماعي الذي لا تكفُلُه إلَّا الأُسرة، وكل ذلك يؤثِّر سَلْبًا على كُلِّ النُّظُمِ السِّياسِيَّة والاجتماعيَّة والتربويَّة، إن لم أقل: إنه يُهَدِّد مصيرَ النوعِ الإنسانيِّ نَفْسِه.
أمَّا المحذور الثالث: فهو أن التطور الذي يجري على قَدَمٍ وساق في مجال الجينات والهندسة الوراثيَّة وما إليهما، وما يترتَّبُ عليه من مخاطر، يجعَلُنا نتساءل: هل الحداثة هي البديل الأمثل لمجتمع يحفظ قِيَمَ الأُمُومة والأُسرة رغم ما يلحقها باسم الدين من تجاوزات، أو أن نقبل هذا الواقع ونحاول تغييرَهُ وتجديدَه انطلاقًا من هوياتنا المختلفة وثقافاتنا المتعددة، لأن البديل الآخر وبكلِّ تأكيدٍ هو الدَّمار والكارثة بالمعنيين: المادي والمعنوي.
وأرجو أن يكون هذا التساؤلُ الذي يبدو لي محوريًّا، محلَّ اهتمامكم وأنتم تتطلعون إلى استراتيجيةٍ جديدةٍ لتمكينِ المرأةِ وللتوازنِ بينها وبين الرَّجُل في كافَّةِ مجالات الحَيَاة.
شُــكْرًا لحســن استماعكم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته؛