يفطرون على أرواح الموتي ويتسحرون «الجعد».. هكذا يحتفل أحفاد «الجبرتي» برمضان
تتوجه إلى جنوب البحر الأحمر وجزره المنتشرة بداخله، حتى تجد دولة إيرتريا، التي خرج منها أهم مؤرخي مصر وهو الشيخ العلامة "عبدالرحمن الجبرتي"، وموانئها الجميلة التي تتحكم في مضيق باب المندب، لترى على الضفة الأخرى خلف مياه البحر تلك الحياة الإفريقية البسيطة، وترصد "التحرير" عادات وتقاليد هذا الشعب في رمضان.
المسحراتي يستقبل رمضان
تستقبلك إيرتريا في أول أيام رمضان بـ"المسحراتي"، معلنًا قدوم الشهر الكريم، على أصوات طبلته ويتبعه عدد كبير من الأطفال اللذين يحمل كل منهم شيئًا ليصدر صوت الطبلة، قائلين مرحب شهر الصوم، بتلك الكلمات رسم عثمان صالح، العضو السابق بجبهه تحرير إيرتريا اللحظات الأولى لقدوم رمضان إلى بلاده.
مدفع "مصوع"
بينما يضيف ميناء مصوع خصوصية أخرى لاستقبال شهر رمضان، حيث ينطلق المدفع ليشعر الجميع أن الشهر حضر، ويستمر طول أيام الشهر في انطلاقه ليكون علامة توضح موعد الإفطار، وذلك حتى يختتم بداناته شهر الرحمات، وتتميز تلك المدينة بمدفعها عن غيرها من مدن إيرتريا.
"كازان" والاستعداد للشهر الفضيل
وقال منصور سعيد، أحد أعضاء جبهه تحرير إيرتريا، المسؤول عن الإمداد والتموين: "يستعد الإثيوبيين لرمضان قبل بداية الشهر الفضيل بأكثر من 20 يومًا، متوجهين لمدينة كاران، ذات السواد الأعظم من المسلمين، ليشترون مستلزمات رمضان كل على قدر إمكانياته، وكل الناس تصوم كبيرها وصغيرها، ولا يجرؤ أحد على الإفطار على الملآ".
حلبة أسمرة والـ3 أيام
ولا تقتصر التجهيزات على الخزين طوال الشهر؛ بل هناك بعد المشروبات التي تستغرق 3 أيام في التحضير لها، وذلك حين تتوجه للعاصمة أسمرة، والتي تعتبر الألطف جوًا في عموم إفريقيا، فطقسها لطيف طيلة الـ12 شهر بالسنة، نظرًا لوقوعها على هضبة مرتفعة، وهناك تجهز الحلبة الإيرترية، والتي تأخذ 3 أيام في تحضيرها لتشرب في الشهر الفضيل، ولا تصنع بتلك الطريقة سوى في أسمرة والقرى المحيطة بها.
مائدة الإفطار
للإفطار في إيرتريا ومائدته قصة أخرى، يقول عثمان صالح، أحد المعارضين الإيرتريين، أن المائدة بالشهر الفضيل تمتلئ بصنوف الأكل المختلفة من خنعى وهي صلصة رائعة ترى حمرتها كالدم المسفوح وتضمن بداخلها دجاج أو ضأن، ويعلو الطبق بيضة، لأنهم يعتدون أنه للأبد من وجود مشاركة الأموات في السحور، وتأتي بعدها الرجلة، التي تطهى بشكل جيد وتقدم مطبوخة مثل السبانخ، غير بعض الوجبات المعروفة مثل "الكسرة الإيرترية عن شريحة من الخبز، والتي تتميز عنى نظيرتها السودانية بأنها أكثر سماكة منها.
مائدة الموتى
"يمثل الإفطار في إيرتريا له خصوصية لا توجد بأي مكان آخر بالعالم"، ليصف صالح هذه الصورة النادرة للوفاء، فكل عالة تقوم بعمل إفطار على روح أحد متوفينها، فإذا كان الزوجين والديهما متوفيين كل منهم يقوم بإفطار على روح هذا المتوفي لكل متوفي في يوم، كما يقوم كبير العائلة بهذه المهمة عن من يعولهم، فإذا وجدت أخت توفي زوجها يقوم أخوها المعيل للعائلة بعد إفطار على روح زوج أخته.
التراويح بالنكهة الإيرترية
وقال عبدالله علي، أحد أعضاء الجهاز الصحي في جبهه تحرير إيرتريا، إن السحور في إيرتريا له طعم ومذاق مميز، فليست مجرد 8 ركعات تؤدي وبين كل 4 ركعات درس، ولكن هناك ورد من الأذكار التي يقوم بها الصائم مع أصدقاؤه، بعد كل ركعتين، وذلك بشكل جماعي، وصوت جميل، حيث يردد كل من في المسجد تلك الأذكار في صوت واحد، كما أنها تصل لـ20 ركعة في إيرتريا.
ولا تخلو تلك الصلاة من قمع، حيث يحرم استخدام مكبرات الصوت في نقلها، ولم يكتف بذلك؛ بل منع استخدام الميكرفونات نفسها، وذلك نظرًا للبناء السطحي في إيرتريا وأن هاتين الأداتين يمكنا أن يسمعا عدد كبير من الشعب الأرتري؛ بل والمساجد محرومة من أي استعدادات للشهر الفضيل، بل ويمنع وجود أي عمل خيري لصالح المؤسسات الإسلامية بإيرتريا.
سهرة الـ"جبنة"
تنتهي صلاة التراويح، ولا ينتهي معه تجمع الإيرتريين فيقوم أحد المنازل بتحضير "صينية" من الجبنة الجبشية، وهي القهوة في لغتنا العربية، وفد كان في البداية تسمى قهوة ويسمى الوعاء الذي تصب منه على الفناجين الصغيرة بـ"الجبنة"، وشيئًا فشيئًا بدأ الاسم يكسوا القهوة نفسها، التي تصنع وتصب مغلية، ثم بعد ذلك يضاف لها السكر.
"عصيدة" السحور
السحور في إيرتريا يتلخص في كلمة واخدة تسمى "العصيدة" الإيرترية، أو "اللقمة"، هكذا وصف محمد نور شمسي، عضو حركة 24 مايو الأيرترية مشهد وجبه البركة "السحر" في الدولة الساحلية، مؤكدًا أن العصيدة تصنع من القمح والذرة، والسمن البلدي والزبادي الذي يوضع على وجهها ويقلب مع باقي المكونات، وتختلف اسم تلك العصيدة من مكان لمكان، فالمرتفعات التي تتمركز في وسط إيرتريا بمددينة أسمرة وما حولها، الكلت، بينما في الأراضي المنخفضة ذات الأغلبية المسلمة تسمى "الجعد"، و"تكوشا" بلغة قبيلة مارا.
رمضان الأطفال.. ألعاب موسمية
كما تطرق شمسي لدور الأطفال في رمضان فهم يساعدوا والديهم في أعمال المنزل، ويذهبوا للتراويح، ألعاب موسمية، تلعب حسب الموسم الذي جاء فيه رمضان، وأشهرهما لعبتين الأولى حجرة أسواني يسخنوها ويلقوها، وبالليل يفتش عنها الأطفال ومن يجدها هو الفائز، ومن يقوم بأهرامات من الطين، ويقوم الفريق الآخر بطمسها، ومن تبقى له أكبر عدد من تلك الأهرامات يكون فائز.
الأزهر حاضر غائب بأمر "أفورقي"
قاطع حامد العجب، عضو حركة 24 مايو الإيرترية، بني جلدته في أثناء الإفطار بأحد التجمعات بالقاهرة، مبينًا أنه في الأزمان القديمة كان الأزهر كان يرسل بوعاظ، تخطب في الناس وتعلمهم دينهم في رمضان، إلى أن قام أسياسي أفورقي بمنعها في عصر الإمام محمد سيد طنطاوي رحمه الله، ولكن المساجد كلها في رمضان تضاء حتى تهتدي بإضائتها القوية من على بعد وأنت سائر في الطريق.
رمضان المخيمات بطعم "الكوليرا"
وأكد العجب في تصريحات خاصة لـ"التحرير" أنه رغم صعوبة رمضان على الشعب الإيرتري في الداخل، إلّا أنه لا يقل صعوبة على الإيرتريين بمخيمات اللجوء في شرق السودان، والذين يجلسون فيها منذ عام 1967 ولم يعودوا إلى اليوم، ولكن في رمضان هذا العام، داهمهم مرض الكوليرا، وتحولت التراويح لسكانها إلى صلوات للجنازات الجماعية لمن يقع موتًا من سكانها بسبب المرض الفتاك، ومما يزيد الوضع تعقيدًا عدم وجود مساعدات إغاثية أو طبية اللهم من الهلال الأحمر السوداني.
رمضان على جبهات القتال
ورسم عمر محمد شيخ، مدير مكتب كسلا لجبهه التحرير الأرترية، صورة من الماضي المؤثر في حياة الأرتريين عمره لا يقل عن 40 عام، حيث نعود لحرب التحرير الأرترية مع إثيوبيا، وكان فيها الجنود يقطعون لـ3-4 كم سائرين، ولكن العدو الإثيوبي لم يكن يجرؤ على مهاجمة المدن الأريترية وقت رمضان، ولكن كان الجنود الإرتريين يأخذون حذرهم فهناك البعض يقوم بالإفطار، والبعض الآخر يحرسهم حتى يفرغوا ليتبادلوا الأدوار.
العيد بملامح إيرترية
وفي العيد كل مدينة تصلي في مصلى واحد وكل حي يخرج بعلم معين بمسيرة حتى يصلوا لساحة الصلاة، وقد تستغرق بعض المسيرات ساعة من السير حتي يذهبوا للساحة، ولذلك يتم تأجيل صلاة العيد للساعة الثامنة والتاسعة حتى تصل كل المسيرات للساحة.
يستعد كل منزل خلال الثلاثة أيام للضيوف فكل شخص في الحي يجب أن يزور كل جيرانه جار جار في العيد، ومن له جار لم يزره يعاتبه لأنه لم يأتي إليه، ويأخذ الضيف واجبه من كعك العيد وبسكويته، ثم ينصرف لمنزل آخر، وغالبًا ما ترتب من الأقربون حتى الجيران الأبعد وزملاء الدراسة.
ولم يغفل شيخ دور الأطفال في العيد يطرقون أبواب منازل الحي ويقولون "عيدية" ليأخذوا بلح أو لعب أو ما يجود به صاحب المنزل، وهم لا يتركون بيت أيضًا.