“الموت.. كنا نعايشه ونخافه ونتمناه ونتنفسه ونألفه” هكذا يتذكر اليسارى البارز سعد زهران فترة الاعتقال التى قضاها خلف قضبان سجون جمال عبد الناصر عندما كانوا يخافون الموت ويتمنونه فى كتابه المهم (الأوردى.. مذكرات سجين”.
والمعروف أن حقبة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر اشتهرت بأن الحريات والديمقراطية لم تأخذ حقها بل كانت مقيدة ومصادرة، واتضح ذلك من خلال حل الأحزاب السياسية، وأعمال الاعتقال والتعذيب التى يتعرض له المعتقلون، ورغم الإنجازات التى قامت فى تلك الحقبة، والتى تعتبر من أهداف ثورة يوليو 1952، إلا أن موضوع المعتقلين السياسيين فى تلك الفترة ظل فى ذاكرة الكثيرين ملفا أسودا وقاتما.
وتعد شهادة سعد زهران على تلك الفترة من أهم الشهادات عن تعذيب المعتقلين، حيث يسرد فى مذكراته فترة اعتقاله من عام 1959 إلى 1960، أثناء الحقبة الناصرية.
والغريب أن الكتاب تم الانتهاء من كتابته عام 1979، ومع ذلك لم يطبع إلا عام 2004 فى طبعة غير كاملة ثم طبع مرة أخرى طبعة كاملة عن طريق مركز المحروسة المملوك لنجله فريد زهران فى عام 2014.
و”الأوردى” كلمة تركية معناها “معسكر”، وقد كان الأوردى معسكراً لقوة حراسة ليمان أبو زعبل وقت أن كان كثير من مفردات مصلحة السجون مأخوذاً من اللغة التركية، (مثل: يَمَكْ، جراية، شفخانة)، ثم أصبح الأوردى سجناً صغيراً ملحقاً بالليمان يعزل فيه بعض المسجونين لأسباب خاصة، وقد أُودع فيه الشيوعيون المصريون أثناء الحكم الناصرى مرتين: الأولى 1954 – 1956، والثانية 1959 – 1961.
ويحتوى الكتاب على ثلاثة أجزاء، الأولى هى مقدمة يسرد فيها “زهران”، وضع التنظيمات الشيوعية، والحيرة التى حدثت لهم أثناء الحديث عن الوحدة مع سوريا، سواء بالتضامن مع الحزب الشيوعى السورى، والتى اختلف مع الرئيس جمال عبد الناصر، قبل الهجمة التى قام بها النظام الناصرى ضدهم واعتقالهم.
كما تكلم الكاتب عن أنواع التعذيب التى يتعرض له السجين، داخل معتقلات “عبد الناصر”، وعقب الإفراج عنه ومدى حرص النظام الأمتى إنذاك على ألا يتعرض المعتقل للموت، خشية أن يتحول إلى شهيد، وتتهم الأجهزة الأمنية أمام الجميع بقتل النفس البشرية، المدانه حضاريا وإنسانياً.
وأشار الكاتب أيضًا عن قيام السلطات الناصرية، بإرسال وفد من الضباط، للولايات المتحدة الأمريكية، للتدريب على نوع التدريب المخطط، وكان يضم الوفد حسن منير، مأمور أوردى أبو زعبل، والذى تدور معظم أحداث التعذيب فى المذكرات فى حضرته – وحسن المصيلحى، مستشار الرئيس جمال عبد الناصر لشئون الأمن الوطنى الداخلى آنذاك.
وتحليل من الكاتب لعمل تقييم موضوعى عن أثر التعذيب، ونتائجه النفسية والمعنوية الأكثر عمقًا، والذى اتهم خلالها الكاتب المعذبين بالخيانة تجاه انتهاكهم للجنس البشرى والإنسانية.
أما الجزء الثانى فيسرد فيه القيادى الشيوعى، مذكرات السجين، من داخل أوردى أبو زعبل، ويتأمل “زهران” الأحاديث بين المساجين حول المهانة التى يتعرضون لها، ورأى كل منهم حول أسوأ أنواع المهانة التى يتعرضون لها والتى كانت متباينة بينهم، بعضهم يرى الضرب بالشوم، والآخر يرى الشغل الشاق فى الجبل يوميًا، وآخرين يرون أنها التمارين الرياضية لما يتعرضون أثنائها من ضرب مبرح، وبعضهم يرى أن “اليمك” –الأكل داخل السجن- هو العذاب الأكبر لما يحتوى من جثث من الذباب الميت.
والذباب كان له أثر كبير على “زهران” ظهر من خلال أحاديثه المتكررة حيث وصف بعض “قروانات” – أطباق الأكل- بأن الذباب يكون بالكثرة التى تغير لون وشكل اليمك الأصلى، بالإضافة لـ”سوس الفول”، الذى يمثل الضيف الدائم على أطباق الفول، بسبب تخذينه فى مخازن السجن طوال العام وسهولة وصول “السوس” للمخازن.
وتوقف زهران عند بعض الطقوس والأعمال التى يتعرضون لها داخل الأوردى، مثل “الحمام” و”الاستحمام” الذى أكد أنه يتم كل أسبوع ويكون بخلع جميع السجناء ملابسهم فى العراء كنوع من الإهانة ودخولهم جميعا إلى الحمام، والذى يحتوى عددا محدودا من “الأدشاش” يتكومون تحتها، بجانب طوابير الهتاف والصباح والمساء والتفتيش والرياضة والغذاء والذى يتعرض فيهم السجناء لكل أنواع البطش والإهانة.
وكان الزبانية كما يصفهم سعد زهران مسلطون على خلق الله طوال الوقت سواء بالتعذيب البدنى أو الإهمال الصحى للمساجين، ويبدو أن الكاتب كان متأثرًا بوفاة المعتقل على الديب، الذى مات نتيجة تدهور حالته الصحية، نظرا لأنه يعانى من “البواسير”، وقامت إدارة السجن بقيادة المأمور حسن منير، بالتنكيل بالديب بحجة أن ما به هو “دلع سجين”، حتى ساءت حالته وتم نقله للمستشفى بأمر الطبيب، لكنه مات قبل أن يتم علاجه، كما كانت وفاة المفكر اليسارى شهدى عطية، أثناء أحد “حفلات الاستقبال” بعد تعرضه لضرب مبرح، وهو ما أدى لوجود حالة من الارتباك داخل أروقة الأوردى، نظرا لأن القاعدة هى الضرب الذى يؤدى إلى الوفاة وليست الوفاة نفسها.
وتبدو رواية سعد زهران، متطابقة إلى حد كبير، مع رواية الدكتور أحمد القصير فى مقالاته وتسجيلاته عن واقعة وفاة شهدى عطية، أحد نزلاء أوردى أبو زعبل فى 15 يونيه 1960.
الكاتب أيضا فى مذكراته تحدث عن السجن الانفرادى، وقسوته، حيث كان يعانى نزلاء ذلك الحجز من البرودة القارصة، وتكلم عن “تفتيش المساء” الذى يقوم به الضباط، للقيام بحفلة تعذيب وضرب جديدة، وطابور الصباح والذى كان يبدأ مع بداية كل يوم، بضرب معتاد من السجانين، وسط صراخ المساجين “شمال.. يمين.. شمال.. يمين”، والذى يتضح من ذكره فى مرات التعذيب وكأنه النداء المسوح للمساجين النطق به أثناء حملات الضرب.
حسن منير مأمور أوردى أبو زعبل، والذى تم ذكره فى مقدمة الكتاب على أنه تلقى “تدريبات للتعذب” فى الولايات المتحدة، ويتضح مدى نجاحه فى تلك التدريبات من واقع وسائل التعذيب القاسية والمهينة التى قام بها، بجانب اشتراكه المباشر فى وفاة “الديب” و”شهدى”.
ومن وقائع التعذيب أيضا أن حسن منير، أمر المساجين بأداء نشيد الله أكبر، تحت وطأة من التعذيب المتكرر، حتى أنه أمر بسجن المعتقل حسن إسماعيل فى الحجز الانفرادى، لرفضه أداء النشيد، بحجة أن قول النشيد فى هذا الوضع إهانة للنشيد.
ويبدو أصعب الأمور على الإطلاق، والتى تحدث عنها الكاتب عندما يتعرض المساجين لوابل من الضرب المستمر، وذلك بعدما يقوم “منير” فى “هتاف الصباح”، بعمل حملة تعذيب وضرب وإهانة كبيرة للمساجين أستمرت لوقت طويل، حتى توقف الضرب، وبدا شاويش بالهتاف: “تحيا الجمهورية العربية المتحدة” ورج الهتاف أرجاء الأوردى وهتف ثانياً: عاش الرئيس جمال عبد الناصر” والذى ردده المساجين كالقطيع المنهك، ومن يلاحظ عليه أى تراخ فى العتاف باسم “ناصر” كان له النصيب الأوفر من الضرب، وعن هذا قال “زهران” عن تلك الواقعة: “ها هى الكأس نتجرعها حتى الثمالة”.
الكاتب فى تناوله لشخصية مأمور الأوردى حسن منير وضح كرهه الشديد له وسخريته منه، ووضح ذلك من استخدام لفظ “صاحب الصوت الناعم” فى كل مره يذكر فيها حسن منير المأمور، هذا بجانب وصفه الدقيق لجسده وساقيه السمينتن.
الجانب الشخصى والعاطفى، لم يخلو من مذكرات “زهران” إذ تناول إحدى الزيارات التى قامت به والدته وزوجته، ووضح من خلال تناول الكاتب للحدث بحبه الشديد لوالدته وتعلقه بها، وذلك من خلال سرده لحدث “بتر ساقه”، والذى حدث قبل 23 عاما من اعتقاله، ومدى خوفه حينها من معرفة أمه بما تعرض له خوفا عليها أن يحدث لها أى مكروه، لمعرفته بحبها الشديد له.
الكاتب برغم اعترافه بأنه لم يقم بأعمال الجبال الشاقة، نظرا لحالته الصحية – إصابته ببتر فى الساق- ووجوده مع “الدرجات” وهم الذين لا يقدرون على أداء مثل تلك الأعمال لظروف مرضهم الشديد وتهاون أجسادهم أو كبر سنهم أو المصابين بشلل الأطراف أو بتر فى الأطراف، إلا أنه يؤكد أن الأعمال التى كانوا يقوموا بها الدرجات أكثر مهانة”
واختتم الكاتب الجزء الثانى دون الخوض فى تفاصيل الإفراج عنهم وخروجهم من المعتقل، وتناول بعض الملاحظات حول المعتقلات فى مصر، مثل مكاتب السجون، والحبس الاحتياطى وما بعده، وحجوزات الأقسام، وحالة مصر بالنسبة للعالم فى التعامل مع المساجين والسجون، والنظام البولسى العالمى والمصرى.
أما الجزء الثالث والأخير فى الكتاب، فكان عبارة عن مقالات رأى لعدد من الكتاب عن سعد زهران.