أخشى أن يكون مسلسل سقوط الشهداء بهذه الطريقة المتسارعة، أو مسلسل الدم لدينا عموماً، قد تسبب فى حالة من عدم الإحساس، أو حالة من التبلد فى التعامل مع كل حدث على حدة، ذلك أن الطريقة التى تعاملت بها وسائل الإعلام مع كارثة الواحات أقل ما توصف به أنها عديمة المسؤولية أو عديمة الإحساس، ربما الطريقة التى تعاملت بها الدولة ككل على المستوى الرسمى، فى الوقت الذى كان فيه المواطن يغلى ويتحرق ألماً، ولم يجد سوى مواقع التواصل الاجتماعى يصب من خلالها غضبه على أى شىء وكل شىء.
منذ أن ورد الخبر الأول لهذه الكارثة عصر الجمعة وحتى صباح اليوم التالى، كان المواطن يتابع الأحداث من خلال وسائل الإعلام الأجنبية التى كانت أكثر اهتماماً من القنوات التليفزيونية المحلية على مختلف أنواعها، العامة والخاصة، التى استمرت تبث برامجها التافهة والرديئة، وأحياناً الراقصة على مدار الساعة، دون أدنى اعتبار لمشاعر ذلك المواطن الذى كان من الطبيعى أن ينفض عنها إلى أخرى من خارج مصر، فى الوقت الذى رأينا فيه إحداها تعلن فوراً حالة الحداد، على الأقل بوضع ذلك الشريط الأسود، وهو ما لم تفعله كل تليفزيونات الداخل التى تزايد طوال الوقت على من يتحدثون أو يظهرون فى تليفزيونات الخارج، ثم جاءت تغطية الصحف الحكومية فى الصباح على استحياء، لتزيد الموقف سوءاً.
ما أخشاه هو أن تصبح مثل هذه الكوارث خبراً يومياً فى بقاع أخرى، كما هو الحال فى سيناء، بعد أن أصبح الحدث لا يتطلب أكثر من سؤال معتاد عن الكم أو عدد الضحايا، دون تأثير لذلك على المزاج الرسمى العام أو الإعلامى بمختلف توجهاته، اللهم إلا أداء الواجب، وهو تطور خطير ما كان يجب أبداً أن نصل إليه، ذلك أن الدم المصرى كان يجب أن يظل خطاً أحمر على كل المستويات الرسمية وغير الرسمية، وهو الأمر الذى يجب تداركه على الفور، وذلك بالتعامل مع الروح الواحدة على أنها كارثة لا يجب أبداً التقليل من شأنها، ما بالنا حينما نكون أمام عشرات الأرواح.
لا يسعنا إلا أن نقول، حسبنا الله ونعم الوكيل فى كل من استهدف مواطناً مصرياً بسوء، كل من استهدف مواطناً مصرياً بأذى، كل من استهدف مواطناً مصرياً بشر، سواء كان هذا المواطن مدنياً أو عسكرياً، كبيراً كان أو صغيراً، رجلاً كان أو امرأة، حسبنا الله ونعم الوكيل فى كل من يسفكون الدماء، كل من يستبيحون الأرواح، كل من يروعون خلق الله، حسبنا الله ونعم الوكيل فى كل أصحاب الضمائر الخربة، كل من لا يعيرون الأرواح والدماء قدسيتهما.
إعلان الحداد الرسمى على الأرواح والدماء التى تُبذل فى سبيل استقرار الوطن ليس تفضلاً ولا تكرماً من أحد، كما أن سلوك القنوات التليفزيونية تجاه مثل هذه الأحداث يجب أن يكون تلقائياً وطبيعياً وعلى الفور، لا يتطلب أبداً انتظار توجيهات من هنا أو هناك، لأن دور الإعلام هنا هو البحث عن الحقيقة وليس البحث عن البيانات الرسمية، ذلك أن المواطن سوف يبحث عنها من خلال وسائل أخرى خارجية، وهو ما حدث بالفعل، حتى أصبحت مواقع التواصل الاجتماعى أكثر سرعة فى بث التطورات أولاً بأول، رغم ما تحمله من شائعات التضخيم فى كل تفاصيلها، كنتيجة طبيعية للخطأ الرسمى أو المحلى فى هذا الشأن.
ليس أدل على ذلك من أنه فى الوقت الذى كان فيه الخبر الرسمى يتحدث عن ١٤ شهيداً، كان العالم يتحدث عن ٢٠، وفى الوقت الذى تحدثت فيه مصادر أمنية عن ٣٠، كان العالم يتحدث عن ٥٠، وهكذا إلى أن أصبح الحديث الخارجى عن مفقودين ومختطفين، دون أى تعقيب من الداخل، اللهم إلا شائعات الفيسبوك وتويتر، وهو الأمر الذى يُحتم علينا إعادة النظر فى هذه المنظومة بما يتناسب مع التطور العالمى فى هذا الشأن، والذى لم يعد ممكنا معه العودة إلى زمن الاتحاد الاشتراكى، أو إعلام هيئة الاستعلامات.
ربما كانت كارثة الجمعة أو كارثة الواحات وما أسفرت عنه من ضحايا فى صفوف رجال الشرطة هى الأكثر إيلاماً لشعب مصر على امتداد سنوات الكوارث الماضية، ليس بسبب ضخامة العدد فقط، وإنما بسبب ما شاب هذه العملية من تعقيدات تؤكد فى مجملها أن هناك شيئاً ما خطأً لم نستطع التعامل معه، وربما لا نريد، وهو الأمر الذى يُحتم علينا إعادة النظر فى المنظومة ككل، من خلال الإجابة عن سؤال مهم، وهو: لماذا يموت أبناؤنا دون ذنب اقترفوه، لماذا ولصالح من تترمل الزوجات، وييتم الأطفال، وتُثكل الأمهات، وإلى متى سوف تستمر هذه الحالة، ويستمر نزيف الدماء؟!، لنراجع أنفسنا بوازع من ضمير، علّ الإجابة تكون أمامنا، وعلّ الحل يكون فى متناولنا قبل أن نعتاد فقدان المزيد من فلذات أكبادنا دون مبالاة، فى الوقت الذى نحتفى فيه بذكرى الآخرين!!