ما يجرى الآن فى المملكة العربية السعودية الشقيقة هو نوع من آلام المخاض، أما الميلاد فلم يأت بعد، وعندما يأتى سوف يكون حديثا آخر عن المولود، شكله وفصله وذكائه ومستقبله. هى لحظة تأتى فى حياة كل الدول، تكون فاصلة ومشبعة بكثير من الآمال والتوقعات والمخاوف فى حزمة واحدة كلها قلق، وبعضها مرعب، وفى كل الأحوال مثير. المسألة هى أن الحقيقة السعودية ليست ككل الحقائق التى عرفناها من قبل، وما عرفناه أنها دولة محافظة، تقليدية، وبطيئة فى اتخاذ القرار، وتداول السلطة فيها محكوم بأولاد المغفور له مؤسس الدولة الملك عبدالعزيز آل سعود. وعلى مدى قرن تقريبا من مولد الدولة السعودية (١٩٣٢) فإنها عاشت وجلا شديدا من فكرة التحديث، ولكنه حدث ببطء، وبينما كان المصلحون مكبلين فإن المحافظين كانوا يرفعون المقدسات التى عنوانها أنه بعدها لا يوجد نقاش. الآن تكسرت حواجز وسدود كثيرة، ولأول مرة فإن المملكة تواجه «الحداثة» وجها لوجه بلا تلفيق، ولا مناورة، وفى لحظة تحيطها متغيرات ضخمة فى الجنوب والشرق والشمال كلها نار ولهب.
بالنسبة لنا فى مصر فإن المملكة ليست فقط دولة شقيقة، ولكن تاريخنا ارتبط بتاريخها واختلط، وفى لحظات حاسمة لنا فى أكتوبر ١٩٧٣ و٣٠ يونيو ٢٠١٣ فإن وقوف السعودية معنا كان حاسما فى تجاوز مراحل صعبة، فى الأولى تخلصنا من الاحتلال الإسرائيلى، وفى الثانية من الاحتلال الإخوانى. الآن فإن واجب مصر أن تقف بكل قوة إلى جانب المملكة ليس ردا لجميل وإنما لأن مستقبلهم ومستقبلنا واحد. ولكن معضلتنا هى كيف نفعل ذلك ونحن لا نعرف الكثير عما جرى فى الرياض، فعلى السطح يوجد نوع من الثورة على الفساد، ولكن ذلك معتاد فى كل أشكال الصراع السياسى. الأعمق قليلا يسفر عن وجهين: الأول يريد أن تسير عليه الأمور فى المملكة كما كانت تسير دوما، فيكون النفط هو كل شىء حتى ولو جرى الحديث عن تنويع مصادر الدخل، ويجرى تداول السلطة حسب اختيارات الأقدار والتوافق المقدر داخل الأسرة السعودية، ويكون التغيير محكوما ليس فقط بالقدرة وإنما أيضا بالقبول والبيعة. الثانى أن كل ما كان لم يعد ممكنا استمراره، فأسعار النفط انخفضت إلى أقل من النصف، ولا يمكن عودتها إلى ما كانت عليه، ومن ثم لم يعد ممكنا شراء المستقبل؛ وإذا كانت المملكة تزخر بنسبة ٧٠٪ من الشباب فإن سدة الحكم لابد أن تكون شابة تضع أصابعها على متغيرات العالم والتكنولوجيا، ولديها من الإرادة والعزيمة ما يهز جبالا ويغير حدودا وينقل الدولة كلها مما هى عليه إلى مصاف دول متقدمة. الوجه الأول مثاله الدولة السعودية المعروفة كما جرى تأسيسها بخلطة خاصة من الدين والسياسة بحيث تحل تناقضاتها بحكمة الزمن والقادة. أما الوجه الثانى فإن دولة الإمارات العربية المتحدة هى المثال القائم على التنوع ووزارات التسامح والسعادة والذكاء الصناعى والسباق مع الدنيا كلها.
من واقع الأمر، فإن السعودية لم تعد كما كانت، ومن يراقب السعودية جيدا سوف يجد أنها سابقة على مصر فى المؤشرات الدولية المعروفة من التنمية البشرية إلى التنافسية إلى ممارسة الأعمال وبالطبع الدخل وغيره من المؤشرات الاقتصادية. ولكن، ورغم ذلك، فإن البنية الفوقية للدولة من سلطة ومجتمع مدنى وممارسات سياسية تضعها فى مكانة لا تريدها الأجيال الجديدة فى المملكة. اللحظة هكذا مفعمة بكثير من الأمل فى أن تبدأ السعودية انطلاقاتها التاريخية إلى مدن جديدة- نيوم- ومبادرات أخرى فيها خلطة الشباب والزمن الجديد والتكنولوجيا فائقة السرعة. فى مثل ذلك اختبار، فربما كان ما حدث مجرد فوز لطرف على طرف أو أطراف أخرى، ولكنه يمكن أن يكون أيضا ثورة عارمة بكل المعايير لاختراق سحب وحجب. قلوبنا مع السعودية، وعقولنا ممتلئة بالتمنيات الطيبة لكى تنتهى آلام المخاض مؤذنة بميلاد عفى جديد.