كما يتعاقب الليل والنهار، وتتعاقب فصول السنة من الشتاء إلى الربيع إلى الصيف إلى الخريف، فإن كل ما يتعلق بالمسألة الفلسطينية بات من علامات الطبيعة، حيث تتعاقب وتتوالى الفصول والحالات. عادة ما يكون هناك حدث جلل، نوع من «البج بانج» الكونية ينزل على المقاس الفلسطينى والشرق أوسطى والعالمى لكى يرتب سلسلة من التفاعلات والأحداث لا يعرف أحد لها بعد قليل لا أول ولا آخر. يختفى الحدث المحرك ويتدحرج بعيداً فى الذاكرة لكى ينضم إلى أخوات له، بدأت مع مؤتمر بازل الصهيونى الأول قبل قرن وبعض القرن، ووعد بلفور قبل قرن، وقرار التقسيم قبل سبعين عاماً، وحرب يونيو قبل نصف القرن، وبعد ذلك أحداث لا تعد ولا تحصى فى مقال محدود الكلمات. ولكن المهم أن كل ذلك، ما جرى ذكره، وما لم يذكر، كان محكوماً دائماً بحركة متوالية تبدأ دوماً بقدر هائل من الاستنكار والشجب وإعلان الغضب، ليس باعتباره عاطفة سلبية بدنياً ونفسياً وعقلياً، وإنما باعتباره واجباً وفضيلة وغيره ذنب ومعصية وتراجع فى كريم الصفات. لا أحد يعلم متى ينتهى الفصل الأول، ولكن المؤكد أن فصلاً ثانياً سوف يظهر، وهو استنكار الاستنكار وشجب الشجب، فكل ذلك يصير محض كلمات لا يصدقها لا عمل ولا فعل، وتكون وظيفة فصل اللوم للآخرين هو البحث المحموم عما يجب عمله فى هذه الحالة الصعبة.
وعلى مضض شديد، وعلى ضوء الاختيارات الممكنة، يكون الفصل الثالث له طبائع قانونية تستدعى الأمم المتحدة، والجامعة العربية، ومنظمة المؤتمر الإسلامى، وفى كل منها تصاغ الكلمات بعد استنفار قواعد القانون الدولى والمنظمات الدولية وقرارات الشرعية الدولية. وإذا كان الفصلان الأول والثانى تكون الأدوار الأولى فيهما للسياسيين والإعلاميين وأصحاب الحناجر العالية، فإن الفصل الثالث يكون عيداً للدبلوماسيين وأساتذة الجامعات المحترفين فى مهنة النصوص والمواد، وكأننا ذاهبون إلى المرافعة فى محكمة عالمية على الأغلب لا تشاهد ولا تسمع. الفصل الرابع تختلط فيه الأمور بين هؤلاء الذين لا يرضون عما أتى به القانون الدولى والشرائع العليا، وهؤلاء الذين وجدوا أن جبل القرارات والكلمات الشاهق ولد فأرا، وهؤلاء الذين يتعجلون العودة إلى الحياة الطبيعية، وهؤلاء الذين قرروا أن الملام كله يقع ليس على عاتق أحد إلا الحكام العرب، الذين عليهم القيام بالمعجزة الكبرى لتنمية بلادهم وخروجها من العوز والفقر والمرض، ورد الأعادى عنها، وتحرير فلسطين فى آن واحد!.
بالطبع فإن لا شىء يعود إلى ما كان عليه من قبل، ولا الليلة تصير أبداً مثل البارحة، وفى نهاية الفصول فإن جرحاً يضاف إلى جروح، ليس فقط بفعل العمل المحرك لحركة المسألة الفلسطينية، وإنما لأن مرارة الذاكرة تصير علقما. ومثل ذلك كله يصدق بالتمام والكمال على ما جرى منذ إعلان دونالد ترامب عن اعترافه بالقدس عاصمة لإسرائيل، تصديقاً لقرار من الكونجرس صدر فى عام ١٩٩٥، ودون تحديد لحدود أو لمسار تفاوض. ومن لحظتها المشؤومة وحتى وقت كتابة هذا المقال، أو قراءته من جانب قارئ، فإن فصول المسألة الفلسطينية سارت كما تسير دوماً مثل تعاقب الفصول، كالقدر المحتوم والقضاء النافذ. جاءت الفصول كلها فى زمن مضغوط، ففى السياسة فإن الفصول تأتى ليس حسب ما تكون عليه حركة الشمس، أو توالى الزراعات، وقوانين المد والجزر، هى تتحرك حسب تفاعل الساسة، وحركة صراع المصالح، وفى الأول والآخر توازن القوى وما يولده من طاقة وإرادة. جرت المظاهرات وصدرت البيانات فى أول الأمر، وبعد إعلان الغضب «المقدس» جاءت المقالات وصيحات الجيل الجديد، ممن أعطتهم الأقدار نعمة الحديث المباشر إلى الجماهير، عن حكمة أنه لا يكفى الاستنكار والشجب، وانعقدت وصدرت البيانات من الجامعة العربية والمؤتمر الإسلامى، وحتى انعقد مجلس الأمن دون صدور بيانات بعد أن جرى الاكتفاء بقيام الدول الأوروبية بلوم الولايات المتحدة على قيامها بإزعاج غير ضرورى. وأتت الخاتمة كما تحدث فى كل مرة، ولبس «الحكام العرب» الملامة على مسؤولية لا يريد أحد أن يدفع فى سبيلها لا ضريبة دم ولا مال.
موقفى من الحدث الأصلى، أو الذنب الأصلى كما تحب، بينته فى مقالات نشرتها الأسبوع الماضى، أو فيما قلته فى مقابلات صحفية أو تليفزيونية، ولكن ما لفت النظر فى المسلسل الأخير للمسألة الفلسطينية أن واحداً من المظاهر السلبية فى تناول القضية أنه لا توجد تفرقة ما بين «الموقف» و«السياسة». «الموقف» هو إعلان بالرفض أو بالقبول، أما «السياسة» فهى عزم على تغيير حالة غير مقبول استمرارها، وفى حالتنا غلب الموقف السياسة، واختلط فى أغلب الأحوال بالغضب تارة والعنتريات تارة أخرى واليأس والقنوط تارة ثالثة، وكلها مشاعر سلبية. وفى كتاب أفلاطون عن «القوانين» فإنه أعلى من قيم «الاعتدال أو Temperance» وهو القدرة على استيعاب الموقف وأبعاده ومراميه، و«التدبر أو الحصافة Prudence» وتعنى القدرة على اتخاذ القرار المناسب، وجعل «الحكمة Wisdom» فى أعلى المقامات لأنها تقرر السياسة التى تغير الأمور وتضعها فى استراتيجية لها توقيت وزمن. بعضاً من هذا ظهر فى السياسة المصرية تجاه القرار المصرى، فمع الرفض للخطوة الأمريكية جرى التمسك بالمواقف الأصلية عن الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية، والتمسك أيضاً للوصول إليها من خلال عملية السلام التى أظنها رغم كل ما جرى لاتزال جارية وهى مجروحة ودامية.
إذا كان الخلط بين «الموقف» و«السياسة» يؤدى إلى الارتباك، والضجيج، والعائد من كلاهما قليل، فإن الفاعل الرئيسى فى المسألة الفلسطينية هو السلطة الوطنية الفلسطينية ومن ورائها الشعب الفلسطينى بكافة طوائفه ممن هم فى غزة أو الضفة الغربية أو عرب إسرائيل أو المقيمين فى المنفى أو «الدياسبورا» الفلسطينية. هؤلاء وحدهم يستطيعون امتلاك زمام المبادرة بإقامة الدولة الفلسطينية على الأرض وفى الواقع، هى دولة ليست مقسمة بين دولتين، واحدة فى الضفة والأخرى فى غزة، وهى دولة متصالحة مع نفسها وفرقها وشيعها وجغرافيتها. هى دولة مؤسسات حقيقية، وتمتلك مؤسساتها كما هو الحال فى «الدول» الحقيقية، احتكار الحق الشرعى فى استخدام القوة المسلحة. كان ذلك هو ما أقام دولة إسرائيل حينما أقامت المؤسسات قبل الدولة، وقبل قيامها جرت عملية توحيد السلاح بالتفاوض وبالقوة. ومع التقدير لكل الجهود المصرية التى جرت وتجرى فى هذا الشأن من مصالحة، ومع التقدير لما تحقق حتى الآن وهو ليس قليلاً، فإن الخطوة الأساسية للانتقال من الواقع المرير السابق، وحالة الضعف التى جعلت ترامب يقوم بما لم يكن عليه القيام به، هو أن تقوم الدولة كما تقوم الدول، وعلى الأرض وفى الواقع، واليوم وليس غداً. الدعم العربى واجب، ولكن الدولة الفلسطينية لن تقوم إلا بالفلسطينيين وليس غيرهم، لأنهم وحدهم يملكون القرار فيما يخصهم، ولم يعد لديهم مجال لإخفاق تاريخى آخر؟!.