نشر موقع البوابة مقال للكاتب عبد الرحيم علي بعنوان “الثورة مستمرة” جاءت على النحو الآتي :-
نعم الثورة مستمرة، كيف لا، وكثيرون ممن خططوا لإسقاط مصر وتقسيم شعبها، وتمزيق وحدتها، وتركيع مؤسساتها الوطنية، ما زالوا يقفون متربصين خلف الأبواب، ينتظرون أن نغفل قليلًا أو أن نختلف كثيرًا، أو أن تخور قوانا أو ترتخي قبضتنا، لكي يهجموا علينا، لا يرقبون فينا إلًّا ولا ذمة.
الثورة مستمرة لأننا لم نخرج بعد من عنق الزجاجة، لم ننته بعد من حربنا ضد الإرهاب، لم نستكمل مهام بناء دولتنا الديمقراطية المدنية الحديثة.
لم نضع بعد أسس وقواعد النهضة التي يستحقها شعبنا.
فما زلنا نكافح من أجل النهوض من عثراتنا، وما زالوا يلاحقوننا في كل مرة نحاول فيها أن نخطو للأمام، بسياط النقد اللاذع، والتلسين الجارح، والتخوين الفاضح.
ما زالوا يحاولون إقناعنا بأننا على خطأ وأن ما كانوا يحفرونه من قبور لهذا الشعب وتلك الأمة وهذا البلد الأمين، هو عين الصواب.
في هذا التاريخ من كل عام، 30 يونيو، تتوالى الذكريات، يطلب مني بناتي وأحفادي، وزملائي وأصدقائي، أن أروي لهم بعضًا من أسرار تلك الأيام العظيمة.
ما حدث فى الأيام الأولى للثورة، وما لم يروَ بعد.
والحقيقة دائمًا ما تختلط عليَّ الذكريات ولا أعرف من أين أبدأ.
أتحفظ أحيانًا حول أحداث لم يأتِ أوان الحديث عنها، وأروي أحيانًا ذكريات متناثرة، من هنا وهناك.
ولكن أتردد كثيرًا في البدايات، فهل يصح أن أبدأ من لحظة إذاعة التليفزيون المصري وقائع مؤتمر اللجنة العليا للانتخابات الرئاسية 2012، وإعلان فوز محمد مرسي العياط بمنصب رئيس الجمهورية؟!
كنت وقتها فى طريقى إلى فندق جي دبليو ماريوت بالتجمع الخامس بالقاهرة، لنعلن فى مؤتمر صحفى أُعدَّ لهذا الغرض فوز الفريق أحمد شفيق بالمنصب؟!
هل يصح أن أبدأ القصة من تلك اللحظة، أم أبدأها منذ حصولى على أوراق من أحد الأجهزة الأمنية فى يوم السادس والعشرين من يناير 2011 تفيد بتجسس مرسى العياط مع الأمريكان عبر رفيق دربه ومدير مكتبه بعد ذلك، أحمد عبدالعاطى، وتسجيل الجهاز لتلك المكالمات التليفونية التي تربو على الساعات الخمس بين مرسي العياط وضابط الاستخبارات الأمريكى الذى كان يتولى محطة تركيا، حيث كان يقطن أحمد عبدالعاطى؟!
أم أن البداية الصحيحة تكون منذ يوم 2012-12-12 عندما تقدمت ببلاغ للنائب العام الذى سبق أن عيّنه مرسى العياط بعدما أطاح بالمستشار عبدالمجيد محمود أتهم فيه رئيس الجمهورية آنذاك بأنه جاسوس؟!
ساعتها دخل عليّ المحامى العام لاستئناف القاهرة الذى أوكل له النائب العام التحقيق معى فى البلاغ ليبث إليَّ بشرى سيئة، لكنه قبل أن يقول لى: إن هناك مفاجأة تنتظرك، قلت له مباغتًا: أنت تقصد بالتأكيد أن الأجهزة الأمنية الثلاثة التى راسلتها لتسألها عن حقيقة تلك الأوراق التى معى، والتى تشير إلى تخابر مرسي العياط فى 22 يناير 2011 مع مخابرات دولة أجنبية، قد أخبرتك بالفاكس الآن أنه لا صحة لتلك الأوراق ولا أصل لها لديهم؟!
ساعتها صعق الرجل، فكيف لى وأنا متهم، ومُبلّغ فى آنٍ واحد، أن أعرف شيئًا حدث للتو ولا يعلم به غير النائب العام والمحامى العام الذى يتولى التحقيق، لكننى قلت له بالحرف «تذكر يا سيادة المستشار أن هذه بلادنا، وأن الحكام يأتون ويذهبون، ونبقى نحن الملاك الحقيقيين لتلك الأرض وأننا سننتصر فى النهاية رغم تلك الأوراق التى بيديك، وسوف تعيد الأجهزة نفسها إرسال الأوراق الحقيقية فى وقتها».. أما كيف عرفت محتوى ما بيدِ المحامى العام من فاكسات وقتها فتلك قصة تستحق أن نبدأ بها حكاياتنا الحقيقية، والتي لم ترو بعدُ عن 30 يونيو فى يومٍ ما.
لم ينتبنى شعور بالخذلان قطّ، كنت أعرف، وما زلت، أن للحكومات ضروراتها، وللشعوب خياراتها، فالسياسى له خياراته التى تختلف بطبيعة الحال مع موظف الدولة أينما كان موقعه.
أعتقد أن البداية الحقيقية يجب أن تكون من حيث وقفت فى ميدان التحرير فى السابع عشر من مايو 2013 ومعي ثُلة من الثوار الحقيقيين، لأقسم أمام ستين ألف مواطن مصرى أننا سنعيد مرسي ورفاقه إلى السجون مرة أخرى، وقتها اتصل بى مسئول أمنى كبير جدًّا ليخبرنى أن مرسي استدعاه وطلب منه أن يضعنى خلف الأسوار لمدة 25 عامًا، ولكن بما يرضي الله، أى لا سياسة فى الموضوع، فقط قضية جنائية وينتهى الموقف لتكن «قتل أو مخدرات».
أخبرني الرجل أنه تعلل للرئيس بقرب موعد 30-6 وطلب منه تأجيل العملية لما بعد ذلك الموعد، تذكرنا ذلك فيما بعد أنا وهو فى مكتبه وضحكنا كثيرًا.
هل تصلح تلك البدايات؟ أم أننى يجب أن أبدأ بوعدٍ وعده مسئول بجهاز سيادى كبير بمكتبه ذات يوم عقب نجاح ثورة 30 يونيو، عندما قال لى حرفيًّا: سيأتى يوم ونصنع لكم تماثيل فى ساحة هذا المبنى، فقد صنعتم شيئًا يرقى لدرجة المعجزات، وأذكر أنني قلت له آنذاك: إننا لسنا بحاجة إلى تماثيلكم فلقد سكنا قلوب المصريين، وهذا يكفينا ويزيد.
هل تصلح كل تلك الحكايات كبداية للحديث عن ثورة هذا الشعب العظيم فى 30-6 أم يصح أن نبدأ من حيث التجهيز للحدث العظيم؟
كنتُ قبلها ألقي محاضرة فى مدرسة المخابرات الحربية عن جماعة الإخوان، والحقيقة عندما تلقيتُ الطلب وجدته غريبًا بعض الشيء، فسألت محدثى: هل تعلم يقينًا مَن أنا؟ وهل تدعونى بالفعل لإلقاء محاضرة حول الإخوان داخل مدرسة المخابرات الحربية؟ وهل تعرف جيدًا رأيى فيهم؟ وضحك الرجل مؤكدًا أنه يعرف كل شيء وأنه لهذا السبب تمّت دعوتي، فذهبت وكانت مفاجأة ربما تصلح فى يومٍ ما لحديثٍ طويل عن ذكرى تلك الثورة العظيمة.
ولكنها مفاجأة ضاعفت من إيماني وعزيمتي بضرورة انتصار ثورة 30 يونيو التي كنا نحلم بها آنذاك، مجرد حلم!
لا أعرف لماذا ينتابنى شعور عميق بأن البداية الحقيقية يجب أن تكون من حيث اجتمعنا، نفر قليل لن أذكر منهم أسماء؛ لكى لا يغضب البعض لنفكر ماذا سنفعل فى الثلاثين من يونيو، يومها قال لى البعض: نريد أن نعرف هل ستقف بعض أجهزة الدولة ضدنا أم معنا؟
وذهبت بالسؤال إليهم في المساء، وجاء الجواب محيرًا، فقد رسم محدثى على ورقة بيضاء ما يشبه الشجرة، دائرة وعصا، وقال لى: إذا استطعتم أن ترسموا تلك الشجرة لأيام ثلاثة متتالية أضمن لكم أننا على الأقل لن نكون ضدكم، وعندما استفسرت كانت المفاجأة التى ربما أيضًا تصلح لبداية قصة طويلة، حتمًا سأرويها يومًا ما عن ذلك اليوم العظيم، عندما افترشنا ميدان التحرير وكوبرى قصر النيل وصنعنا من أجسادنا ليس شجرة فقط، لكن أنهارًا فى الشوارع راحت تتدفق حتى قصر الاتحادية، مرورًا بميدان رمسيس والعباسية، يومها قال لى أحد الكبار فى ذلك الوقت: الآن أستطيع أن أقول لك “مبروك” وأنا مطمئن.
لذلك عندما هاجم البعض مكتبى بالسلاح الآلى فى “عز ظهر” يوم الجمعة عقب 30 يونيو، استغربت أن يأتى إلى مسامعى أصواتٌ بعينها سمعتها من قبل فى مناسبات مختلفة لتطلب منى الصفح عن هؤلاء، كان وقع الكلام على أذني مخيفًا وغير محتمل، لكننى صفحتُ؛ لأن الرجال هكذا، لا يملكون سوى شيئين: الصفح والكتمان.
ولكنها قصة قد لا أستطيع روايتها أبدًا؛ لأنها نقطة سوداء أحاول أن أتناساها لكى لا تثقب الثوب الأبيض.
ذكريات طويلة وعميقة صنعها أبطال حقيقيون؛ منهم من قضى نحبه، ومنهم من ينتظر، وما بدّلوا تبديلا.
لكننا قد نملك الوقت والشجاعة يومًا ما لنرويها لأبنائنا وأحفادنا، ولكم أنتم أيضًا.
ولكنني اليوم أكتفي بأن أقول للمصريين.. كل المصريين: كل عام وأنتم بخير، والثورة مستمرة فاصمدوا.