وسهم لومك فى الاتجاه الخاطئ، لا تصوبه إلى صدر «حمو بيكا»، ولا تضرب به رأس «مجدى شطة»، بل أعد توجيهه نحو صدور من خلقوا مساحات الفراغ، وعقول من جعلوا للمنتج الرخيص سعرا، ومن دفعوا توافه السوشيال ميديا والشوارع إلى منصة النجوم والأبطال.
يمارس «حمو بيكا» و«مجدى شطة» ومن مثلهما لعبتهما منذ زمن داخل عربات «الترسو»، إفيهات ومادة فنية رخيصة موجودة على الهامش، لم تكن تحلم أبدا أن تنتقل إلى صدر المشهد، ولكن ساحة المقدمة فارغة، والساحات الفارغة مثلها مثل الخرابات تجذب الفئران والحشرات والهوام، فلا تلم فأرا سكنها بل وجه اللوم لمن تركها تتحول إلى خراب، وفتح أبوابها لمن هب ودب.
يصرخ جمهور السوشيال ميديا والمواطن المصرى كثيرا من تلك الظواهر، يعاتب الجميع على تدنى ماوصلنا إليه، ولكنه لا يعاتب نفسه وهو المصنع الأول الذى يخلق مثل هذه الظواهر بآلاف اللايك والشير الذى يدفعها من المناطق المظلمة إلى حيث نور التريند والشهرة.
لا شىء أخطر من مساحات الفراغ، يملأها الزمن بكل ما لا تتوقع وما لا تحب، وما يتسرب لإفساد كل شىء، وتتضاعف جهود إصلاح ضررها.
يعرف القدماء أن كل أرض متروكة دون رعاية أو عناية تصبح مساحة مفتوحة يحتلها النبت الشيطانى، بعضه سام وبعضه يؤثر على ما تزرعه يسلبه القوة والتأثير ويسمح بنمو ما لا يجب أن ينمو، لذا كان أهل الزراعة والفلاحة يغضبون وينتفضون لصد أى هجوم من الحشائش الضارة على الزراعات، خوفًا من أن تسلب الثمرة الطيبة قوتها ونضارتها وتؤثر على المحصول المرجو كمًا وكيفًا.
فى أرض الزراعة كما فى أرض المجتمع والدولة إن تركت المساحات فارغة امتلأت بظواهر ضارة، ورموز شيطانية فى السياسة والثقافة والرياضة والفن، تخرج للنور دون منهج واضح أو معايير منضبطة أو أهداف طيبة، تتغذى على كل شىء حتى لو كان على حساب الوطن والمجتمع وقيمه ومستقبله ومصالحه.
تترك الساحة الإعلامية دون رعاية أو معايير كفاءة وانضباط، يملأ الهواة مساحات الفراغ ويسعى النبت الشيطانى لتنجيم نفسه وتصدر الصورة والتلاعب بعقول الناس، ثم تستيقظ أنت شاكيًا ممن يحاربون الدولة بالشائعات ويربكون مؤسسات الوطن بجهلهم، ويدمرون قيم المجتمع من أجل مصالحهم، نفس الحال فى الرياضة تترك ساحتها فارغة ينبت لك شيطانيًا من يسمون أنفسهم نقادا وإعلاميين رياضيين ينشرون التعصب ويدمرون الرياضة لصالح من يدفع لهم أكثر، وهكذا فى السياسة والدين وباقى مناحى الحياة.
نفتقد إلى فن السيطرة على مساحات الفراغ بزرعة طيبة، بصور وطنية واعية ومثقفة تقدم مصالح الوطن والمجتمع على مصالحها حتى نقطع الطريق أمام هؤلاء الذين يتسللون إلى حياتنا عبر قنوات السوشيال ميديا المختلفة والفضائيات التى تبث إلينا سمومها من الخارج، ويحولهم الإلحاح وأحيانًا الهجوم غير المدروس على ما يقدمونه إلى نجوم مجتمع يتربحون من خلف الاتجار بقيمه وبمصالحه ومستقبله.
فى الماضى كانت مصر دولة تجيد ترتيب مساحات أرضها، تجتمع كل قوتها لصناعة أيقونات أدبية وثقافية ورياضية وإعلامية، كتاب ورموز قادرون على التأثير ودعم الدولة وتشكيل الرأى العام بما يتوافق مع أهداف الوطن العليا والحفاظ على قيم المجتمع وأصوله، يظهر عبدالحليم حافظ من العدم، ويتحول إلى أيقونة فنية، ويتقدم إلى صفوف التأثير الأولى قامات مثل توفيق الحكيم ونجيب محفوظ، وكلما خفت نور كاتب أو أيقونة ما، لحقت الدولة المساحة التى تركها فارغة بآخر تفتح أمامه الأبواب ليملأ هذا الفراغ، هكذا كان الحال، أجيال تسلم أجيالًا دون أن تترك أرضا فارغة يملؤها نبت شيطانى صناعة الخارج أو هوى التريند على السوشيال ميديا كما هو الحال الآن.
انظر مثلا إلى جريدة الأهرام فى عز سطوتها وقوتها حينما أرادت أن تعزز مكانة نجيب محفوظ بعد فترة من الغياب عن الكتابة الأدبية، نشرت إعلان عودته برواية أولاد حارتنا فى صدر صفحتها الأولى بهذا الشكل الذى يخبر العالم أن مصر تملك كاتبا وروائيا كبيرا فجاء نص الإعلان كالتالى: «اتفقت الأهرام مع نجيب محفوظ كاتب القصة الكبير على أن ينشر لها تباعًا قصته الجديدة الطويلة. إن نجيب محفوظ هو الكاتب الذى استطاع أن يصور الحياة المصرية تصوير فنان مقتدر مبدع، ولذلك فإن قصصه كانت حدثا أدبيا بارزا فى تاريخ النهضة الفكرية فى السنوات الأخيرة، ولقد وقعت الأهرام مع نجيب محفوظ عقدا يصبح للأهرام بمقتضاه حق النشر الصحفى لقصته الجديدة مقابل ألف جنيه، والأهرام لا تذكر هذا الرقم، وهو أكبر مبلغ دفع فى الصحافة العربية لقصة واحدة، تفاخرًا أو ادعاء، وإنما تذكره لتسجل بدء عهد جديد فى تقدير الإنتاج الأدبى.
الآن الكل يصرخ من تحول أهل بوستات الفيس بوك إلى نجوم يجمعون لايكات بسبب مضمون ساخر يهدم قيم المجتمع ويزيف ويزور القصص والمعلومات، ويطلقون على أنفسهم كتابا وشعراء وخبراء رغم تفاهة المنتج المطروح والمعلومات المغلوطة والقصص الخايبة المسروقة والجهل المدفون بين السطور.. بس خلاص أصحاب المنتج ده بقوا مشاهير.
نفس الأمر يتكرر مع بعض نجوم السوشيال ميديا الذين بدأوا بصناعة فيديوهات ساخرة لا تعتمد على منهج علمى، ولا تتم وفق معايير المحتوى المصور أو التليفزيونى التى تهدف للصالح العام، انتشرت هذه الفيديوهات وتحول أصحابها إلى نجوم يجمعون المال والشهرة وتهرول خلفهم الفضائيات، وحينما اعترض بعض العقلاء على تنجيم هؤلاء ظهرت أصوات الهوس لتصرخ لماذا تخافون من السوشيال ميديا والحرية، إنهم يكشفون فشل الإعلام التقليدى ثم حولوهم إلى مذيعين ونجوم إعلانات، وبالتالى إلى رموز ونجوم فى المجتمع يدمرونه لصالح زيادة رصيد الأموال القادمة من يوتيوب أو فيس بوك.