نشر موقع الشروق الإخباري مقال للكاتب ” عبد الله السناوي ” بعنوان ” الدبلوماسية الخشنة فى أزمة السد الإثيوبى ” جاءت على النحو الآتي :-
بدت الرواية الإثيوبية المتناقضة كأنها بندول ساعة قديمة، يذهب ويجىء بين الإثبات والنفى من لحظة لأخرى.
ملأت خزان «سد النهضة».. أم لم تملأه؟
فى يوم واحد تبنَّت إجابتين متناقضتين.. أولاهما أكدت، وثانيتهما نفت.
كان الإعلان عن بدء ملء خزان السد منسوبًا إلى وزير الرى عبر وسائل إعلام رسمية،
مصدقًا بقدر اتساقه مع الاستراتيجية التفاوضية الإثيوبية فى استهلاك الوقت والمفاوضات للوصول إلى هذه النقطة بالذات
بوضع دولتى المصب مصر والسودان أمام الأمر الواقع دون اتفاق ملزم، عادل ومنصف.
وكان النفى الرسمى، عبر نفس الوزير ووسائل الإعلام الإثيوبية، التى بثت خبر بدء ملء السد، مطعونًا عليه فى صدقيته.
بفوائض أزمات الثقة فيما يصدر من تصريحات وتعهدات إثيوبية سرعان ما يجرى سحبها من فوق موائد التفاوض
والعودة إلى المربعات الأولى مرة بعد أخرى، داعيًا إلى التساؤل عن حقائق الموقف وأسرار الارتباك.
فى أحوال طبيعية يفترض أن يكون النفى الإثيوبى لملء الخزان
داعيًا إلى تأكيد الثقة فى إمكانية التوصل إلى اتفاق بين الدول الثلاث ينهى الأزمة،
غير أن الأسلوب التفاوضى الذى تتبعه لا يدع مجالًا لأى رهان على حسن النية مجددًا.
بدت الرواية الأولى، التى أكدت ما التقطته الأقمار الاصطناعية من صور عن بدء ملء الخزان، أقرب إلى خطاب داخلى،
فـ«بناء السد وملؤه يسيران جنبًا إلى جنب»، و«اللحظة التى انتظرها الإثيوبيون طويلًا حانت أخيرًا».
فور الإعلان الإثيوبى أكدت وزارة الرى السودانية أن هناك تراجعًا فى مستويات نهر النيل بما يعادل (90) مليون متر مكعب.
كان ذلك إقرارًا من إحدى دولتى المصب بقدر الضرر الأولى الذى أصابها.
وبدت الرواية الثانية، التى قالت إن تحريفًا قد حدث لتصريحات وزير الرى،
وإن «ما حدث هو أن المياه تجمعت فى بحيرة السد بشكل طبيعى،
خلال موسم الأمطار الحالى، دون أن تغلق بواباته أو تحتجز المياه داخله»، أقرب إلى محاولة درء المخاطر لا إعلان الحقائق.
فى الحركة بين الإثبات والنفى، تبدت ثغرات عديدة فى الموقف التفاوضى الإثيوبى،
فهو لا يملك وحده ــ كما يدعى ويظن ــ أوراق الأزمة كلها يتصرف بها كما يشاء دون رادع.
هناك حدود يصعب تخطيها ومخاطر يستحيل تجاوزها.
أول المخاطر، انهيار صدقية المفاوض الإثيوبى فى قارته الإفريقية وداخل محيطه الطبيعى.
بصورة أو أخرى نجحت إثيوبيا فى اكتساب تعاطف كبير داخل القارة دعمًا وتأييدًا لمشروع بناء السد، باعتباره تطلعًا لتنمية بلد فقير يسعى للنهوض.
وبصورة أو أخرى لم تحظ مصر بذات قدر درجة التعاطف، رغم ما يتهددها من أخطار وجودية على حياة شعبها.
لم نعرض القضية المصرية، كما يجب على القارة، ولم يكن الأداء الإعلامى على قدر خطورة القضية وعدالتها.
بترجمة سياسية، مثَّل الإعلان عن بدء ملء خزان السد إحراجًا بالغًا لجنوب إفريقيا،
قبل التئام قمة إفريقية مصغرة تضم قادة الدول الثلاث برعايتها باعتبارها رئيسة الاتحاد الإفريقى فى دورته الحالية،
للنظر فى الخطوات المقبلة الممكنة حتى لا يعلن الفشل النهائى للمفاوضات.
موضع الإحراج أن جنوب إفريقيا قد تبدو متواطئة مع إثيوبيا فى استهلاك الوقت حتى يبدأ ملء خزان السد،
وأن دعوتها للقمة المصغرة كانت إيعازًا من أديس أبابا لعرقلة أى احتمال لاستصدار قرار من مجلس الأمن بشأن الأزمة المتفاقمة.
بتوصيف مندوب جنوب إفريقيا فى اجتماع مجلس الأمن، فإنه ليس المكان الصحيح لحل أزمة «سد النهضة»،
وأن الفضاء الإفريقى هو الأنسب لمثل هذه الأزمات.
إذا ما كان الخزان قد بدأ ملؤه فعلًا فإن شبهات التواطؤ يصعب استبعادها والاستخفاف بجنوب إفريقيا لا يمكن نفيه.
ذلك يؤثر بالضرورة على قدرة إثيوبيا على المناورة ويضعها فى موضع المساءلة الإفريقية.
وثانى المخاطر، أن الإقدام على مثل هذه الخطوة الأحادية الخطيرة، التى تناقض ما التزمت به إثيوبيا فى القمة المصغرة الأولى
قبل أن تحاول التنصل منه، يثبت صحة التوصيف الدبلوماسى المصرى للأزمة بأنها تمثل تهديدًا للأمن والسلم الدوليين.
وثالث المخاطر، إضفاء نوع من الشرعية على أى عمل أحادى مضاد بذات القدر والقوة، بما فى ذلك العمل العسكرى
إذا ما أغلقت كل الأبواب والنوافذ والفرص لتسوية عادلة تكفل لإثيوبيا حقها المشروع فى الكهرباء والتنمية، وتضمن لمصر حقها فى المياه والحياة.
عند حد الحياة والموت لا يمكن استبعاد أى سيناريو.
لا يمكن أن يتقبل المصريون تبوير ملايين الأفدنة، وهدم أية قدرة على توفير احتياجاتهم الغذائية دون رد يكافئ العدوان على حقهم فى الحياة.
أمام الارتباك الإثيوبى الظاهر تحتاج مصر أن تدير أزمتها بأكبر قدر ممكن من التماسك الوطنى، وخفض أية احتقانات سياسية
واجتماعية والتزام دبلوماسية خشنة تقنع الأصدقاء ــ قبل الأعداء ــ بأنها معركة وجودية لا تقبل أنصاف المواقف.
الأرجح الآن انتظار ما قد تسفر عنه القمة الإفريقية المصغرة، إذا ما راوغت إثيوبيا قرب خط النهاية،
فإنها سوف تجد نفسها فى زاوية يصعب الخروج منها.
الخطوة التالية المرجحة التوجه مجددًا إلى مجلس الأمن لمحاولة
استصدار قرار أممى ملزم يضع حدًا للمراوغات الإثيوبية.
إذا لم يمكن التوصل بالوسائل الدبلوماسية والضغوط الإفريقية والدولية الممكنة
إلى اتفاق ملزم، فإن حروب المياه سوف تشتعل بالنيران على ضفاف نهر النيل.
هناك فارق جوهرى ودقيق بين «الأزمة الحادة» و«الأزمة المزمنة».
الأولى، يمكن تجاوزها بعد احتمال قدر من الآلام قبل العودة إلى أوضاع طبيعية، أو شبه طبيعية.
والثانية، تستعصى على التجاوز وأقصى ما يمكن فعله التعايش معها
ومحاولة تخفيف آلامها ومعاناتها دون آمال فى أية أوضاع طبيعية، أو شبه طبيعية.
إذا ما جاز استعارة ذلك الفارق من عالم الطب والصحة إلى عالم السياسة والأزمات،
فإن ما نحتاجه بالضبط تشخيص أخير لطبيعة الأزمة، «حادة» أم «مزمنة»؟
لكل تشخيص استحقاقاته، كما له تداعياته ونتائجه.
رغم المصاعب والتعقيدات والمراوغات الماثلة، فإنه لا يمكن القفز إلى الاستخلاصات الأخيرة،
قبل استنزاف كل الفرص والخيارات المتاحة، التى توفرها الدبلوماسية الخشنة.