أصدر مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار بمجلس الوزراء، ورقة سياسات جديدة وذلك في إطار مناقشة وتحليل مشروعات النقل والمواصلات بالمدن المصرية القائمة منها والجديدة، للوقوف على التحديات القائمة، بهدف التحول نحو نماذج أكثر تنوعًا وقدرة على دعم أنماط متعددة من التنقل المستدام، بما يساهم في تحسين البيئة العمرانية وتحقيق جودة الحياة بالمدينة المصرية.
أشارت الورقة إلى مفهوم التنقل المستدام وفقًا للهدف الحادي عشر من أهداف التنمية المستدامة الصادرة عن الأمم المتحدة، والذي ينظر إليه من خلال سهولة وصول السكان إلى وجهاتهم دون أدنى تمييز أو تفاوت طبقاً للقدرة البدنية أو التكلفة الاقتصادية، مما يرسخ قيم العدالة المكانية ويدفع بقوة نحو تحقيق الاستدامة وتعزيز جودة الحياة، وبذلك يعطي النموذج المستدام للتنقل الأولوية لإتاحة الطرق والشوارع للجميع “وسائل نقل عام/ جماعي/ خاص- دراجات – مشاه”، وليس فقط كفاءة التدفق الكمي للمركبات الآلية ومستخدميها.
أوضحت الورقة أنه رغم استحواذ وسائل النقل الجماعي بشقيها الرسمي وغير الرسمي على معظم الرحلات اليومية في القاهرة الكبرى وسائر المدن المصرية، يظل استخدام النقل الجماعي خيارًا غير جذاب للمواطن المصري، خاصًة إذا ما تمت مقارنته بالسيارات الخاصة، حيث تشير إحصاءات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء إلى ارتفاع عدد المركبات الخاصة بنسبة 90٪ بين عامي 2008 و2018، أي بمعدل نمو سنوي يقارب ال 9٪ ويساوي ثلاثة أضعاف معدل النمو السكاني في نفس المدة.
وتناولت الورقة منظومة النقل في محافظات الجمهورية المصرية، حيث تعتمد معظم المدن المصرية على منظومة التنقل شبه الرسمي كالميكروباص وعربات الأجرة، كما استعرضت الورقة نموذج القاهرة الكبرى كمثال تتوافر فيه البيانات وتعتمد على منظومة تنقل تشكل مزيجًا من النقل العام الرسمي “مترو أنفاق، أتوبيس نقل عام…”، والنقل الجماعي شبه الرسمي “ميكروباصات، حافلات نقل…”، ومنظومة غير رسمية “توك توك، أوبر…”، بالإضافة إلى السيارات الخاصة، حيث أنه وفقًا لمؤشر منظمة “CEDARE” لعام 2018، تشغل وسائل النقل الرسمية نسبة تصل إلى حوالي 30% تقريبًا من إجمالي الرحلات بالمدينة، بينما تشكل باقي المنظومة نسبة 70 ٪ تقريبًا.
واتصالًا، بلغت نسبة الرحلات المقطوعة بواسطة وسائل التنقل المميكنة بالقاهرة الكبرى 87٪ مقابل 13٪ فقط للرحلات المقطوعة بواسطة وسائل التنقل النشط “المشي والدراجات الهوائية”، وذلك من إجمالي الرحلات البالغ عددها حوالي 25.6 مليون رحلة يوميا في عام 2014، وكما قُدمت نحو 67% من الرحلات المميكنة -البالغ إجمالي عددها 22.4 مليون رحلة يوميا- بواسطة وسائل التنقل الجماعية سواء كانت الرسمية “كمترو الأنفاق وحافلات هيئة النقل العام والشركات” أو شبه الرسمية “الميكروباص والميني ميكروباص” والتي تستحوذ فيها الأخيرة على حوالي 63٪ من إجمالي الرحلات المقطوعة بواسطة النقل الجماعي.
وسلطت الورقة الضوء على مؤشرات مدينة السادس من أكتوبر كإحدى مدن القاهرة الكبرى، حيث تغيرت نسب استخدام وسائل التنقل المختلفة في المدينة بين عامي 2001 و2020 وذلك على النحو التالي: شهدت المدينة ارتفاعًا ملحوظًا في استخدام وسائل التنقل المميكنة الفردية وفي المقابل هبوط بنسبة 65% في معدلات استخدام التنقل النشط (المشي وركوب الدراجات)، ومن جانب آخر، واصل قطاع التنقل شبه الرسمي السيطرة على الرحلات اليومية ليرتفع إسهامه من 67٪ في سنة 2001 إلى أكثر من 74٪ في 2020، وذلك وفقًا لـ “خطة التنقل الحضري المستدام لمدينة السادس من أكتوبر- المرحلة الأولى 2020”.
تناولت الورقة جهود خفض عدد الوفيات والإصابات الناجمة عن حوادث الطرق بمصر، حيث تساهم منظومة التنقل المستدام في توفير مجموعة من الاختيارات المتعددة لدى المستخدمين وهذا من شأنه تعزيز النواحي الاجتماعية وفقا للآتي، “تقليل التكلفة الاجتماعية الناتجة عن حوادث الطرق نتيجة التوسع في وسائل النقل الخاصة وبالأخص المفتقدة لعوامل الأمان”، و”إتاحة فرص التواصل الاجتماعي بين مستخدمي وسائل التنقل المختلفة كجزء من دعم الاندماج والتنوع الإنساني داخل المدن”، و”ترسيخ مفاهيم العدالة الاجتماعية والمساواة المكانية من خلال تعزيز مفهوم المشاركة في وسائل التنقل والحركة دون أدنى تمييز جنسي أو عرقي أو تفاوت طبقا للقدرة البدنية، وهذا بدوره يرسخ من قيم العدالة”.
أشارت الورقة إلى القيمة الاقتصادية الكبرى لمشروعات التنقل المستدام بالمجتمع، فضلاً عن الآثار الاقتصادية الإيجابية المباشرة مثل “تقليل زمن الرحلات بين أماكن السكن والعمل” مما ينعكس بشكل إيجابي على الإنتاجية الاقتصادية والصحة العامة لأفراد المجتمع والناتج المحلي الإجمالي ككل، كما تؤثر وسائل التنقل المختلفة على الاختيارات المختلفة للسكان فيما يتعلق بالمفاضلة بين أماكن العمل والسكن والخدمات، حيث تتداخل عوامل الإتاحة، فضلًا عن السرعة والراحة، وفي مقدمة كل هذا التكلفة الاقتصادية الملائمة ودورها في توجيه اختيارات المستخدمين، وهذا بدوره يتطلب ضرورة دمج التكلفة الاقتصادية المباشرة وغير المباشرة كعامل رئيسي ضمن سياسات التنقل والمواصلات بالمدن المصرية.
كما أشارت الورقة إلى التجارب المحلية والدولية الناجحة في مشروعات وسائل التنقل المستدام، مثل مشروعات النقل والمواصلات العامة الجاري توطينها الآن بالقاهرة، وبالأخص مشروع “كايرو بايك” لتحسن التنقل بوسط القاهرة من خلال تشجيع استخدام الدراجات الهوائية، ومن التجارب الإقليمية الهامة مشروعات مبادرة “أنسنة المدن” بالمملكة العربية السعودية، فضلًا عن المشروعات الأخرى التي تسعى بعض الدول العربية لتوطينها للتحول لمدن صديقة للمشاه، وعالميًا إقرار استراتيجية تطوير وتصميم الشوارع بالاستناد إلى مؤشرات الشوارع الصحية في لندن.
وبالاستناد إلى التجارب المحلية والدولية استعرضت الورقة مجموعة من المعايير والأسس الرئيسية لتعزيز مشروعات التنقل المستدام داخل المدن المصرية بحيث تتضمن، “تعزيز حركة المشاه باعتبارها أكثر الأنماط استدامة وكفاءة” و”دعم استخدام الدراجات الهوائية من خلال توفير البنية الأساسية الملائمة” و”تعظيم وسائل المواصلات العامة والنقل الجماعي الأكثر ملاءمة للنواحي البيئية والاقتصادية” و”زيادة الاتصال والترابط بين وسائل المواصلات المختلفة لتحقيق التكامل والكفاءة” و”التقليل من الانبعاثات الكربونية وتحسين جودة الهواء لتشجيع التنقل النشط” و”إدارة الطلب على مناطق الانتظار للحد من استخدام السيارات الخاصة” و”تقنين وسائل التنقل غير الرسمية ودمجها ضمن المنظومة الرسمية” و”تشجيع مشاركة القطاع الخاص ضمن مشروعات النقل الجماعي” و”دعم الحلول والتقنيات الذكية ضمن منظومة النقل العام والجماعي” و”التركيز على دراسات تقييم الأثر البيئي لمشروعات النقل والمواصلات”.
كما استعرضت الورقة المشروعات القومية لخفض الانبعاثات الكربونية الناتجة عن وسائل النقل البري والتي من أبرزها “المشروع القومي لإحلال وتحويل السيارات للعمل بالغاز الطبيعي”، والذي يهدف إلى تحويل 150 ألف مركبة للعمل بالغاز الطبيعي بدلًا من البنزين والسولار بين عامي 2021 و2024، ومشروع “إدارة تلوث الهواء والتغير المناخي في القاهرة الكبرى” والذي من المخطط خلاله ضم 100 أوتوبيس كهربائي لهيئة النقل العام بالقاهرة، بالإضافة إلى “مشروع التنقل المستدام” الذي تم تنفيذه بالتعاون بين وزارة البيئة والبرنامج الإنمائي للأمم المتحدة وبتمويل من صندوق البيئة العالمية، حيث تضمن المشروع إنشاء شبكة دراجات في مدينتي شبين الكوم بمحافظة المنوفية ومدينة الفيوم.
أشارت الورقة أن من تحديات تمويل مشروعات التنقل المستدام في مصر المركزية في حوكمة وتمويل مشروعات التنقل بشكل عام سواء من خلال التمويل الذاتي في استثمارات الموازنة العامة أو من خلال قروض ومنح التعاون الدولي، وما يترتب عليهما من تركيز الاستثمارات في إقليم القاهرة الكبرى مقارنة بإدارات التنقل المحلية من حيث بناء القدرات والتمويل في سائر المدن المصرية، وهذا يعتبر التحدي الأكبر الذي يؤثر بشكل رئيسي على تمويل خطط ومشروعات البنية الأساسية للتنقل النشط وكذلك مشروعات النقل الجماعي داخل المدن المصرية خارج العاصمة.
وختامًا أشارت الورقة إلى مجموعة من التوصيات والتي جاء من أبرزها، “تركيز الاستثمارات بشكل عام في شبكات التنقل الجماعي داخل المدن المصرية لاستيعاب الطلب المتزايد على النقل المصاحب للنمو السكاني والتوسع العمراني في ظل معدل ملكية السيارات الخاصة المنخفض نسبيا والمتركز بشكل واضح في القاهرة والمدن الكبرى”، و”تعزيز قدرات الإدارات المحلية بالمحافظات والمدن المصرية من خلال بناء القدرات وإعادة النظر في تخصيص واستخدام الموارد لدعم مشروعات النقل العام والجماعي بالمدن الإقليمية”، و”فرض قيود بيئية على وسائل التنقل القديمة والمتهالكة، بالتوازي مع عملية الإحلال التدريجي لهذا النوع من المركبات، للحد من الانبعاثات الكربونية الضارة، وما يترتب عليها من تكلفة بيئية واقتصادية مرتفعة للغاية”، و”أساليب تخطيطية وتصميمية داعمة للنقل الجماعي في المدن الجديدة بدلا من التخطيط استنادًا إلى تشجيع الطلب على استخدام السيارات الخاصة”، و”فرض قيود أكبر على استخدام السيارة الخاصة، وذلك من خلال التوسع في تخصيص حارات مستقلة للنقل العام والجماعي لتعظيم الميزة التنافسية لهذا المرفق”.