بالرغم من أننا فى عصر يتيح للناس جميعا حق التعبير عن أنفسهم وآرائهم، يبدو السؤال دائما عما إذا كانت هذه الإتاحة تفتح بابا للحوار أو المناقشة والاستماع للرأى الآخر، وتقبل الخلاف؟ الظاهر أن هناك الكثير من الكلام والقليل من المعرفة، مع عجز عن إقامة حوار يسمح بالتنوع، وطرح الأفكار من دون اتهامات و«زعيق» وبلوكات بين المستخدمين، خاصة على مواقع التواصل.
الظاهرة لا تتعلق فقط بالسياسة، لكنها شائعة فى الفن والنقد والعلاقات العائلية والخاصة، حالة من فقدان الصبر، تنتشر أكثر بين من يطرحون أنفسهم فى المجال العام كأصحاب رؤية، أو طموح سياسى.
المناقشات غالبا تقتصر على مواقع ومنصات التواصل، وتتم من خلال بوستات و«إيفيهات»، متعجلة، لا يبذل أصحابها جهدا فى تدقيق معلومة، بعيدا عن «الكيد» والرغبة فى جذب أكبر قدر من المتفرجين والمشجعين.
مواقع التواصل تتيح المساواة بين كل المستخدمين، لكنها أحيانا مساواة فى السطحية والاستعجال، والرغبة فى جذب الأنظار، وهى ممكنة مع الموضوعات الخفيفة مثل النميمة والطبخ، لكنها تبدو فجة عندما تتعلق بالاقتصاد والسياسة، خاصة لدى قطاعات ممن يقدمون أنفسهم كأصحاب رأى، أو طموح سياسى.
طبعا من حق أى شخص أن يمتلك طموحا سياسيا، وأن يقدم نفسه للجمهور، طلبا لأصوات، أو لتشجيع واقتناع، من خلال برامج أو أفكار، مع تفهم المرحلة بعد يناير، عندما أتاحت مواقع التواصل عمليات تلميع وقدمت زعماء وزعيمات، أثبت الوقت كم كانوا فارغين، وطبلا أجوف، ومع هذا فقد تم تقديمهم فى الداخل والخارج باعتبارهم من «خبراء الثورات وإصلاح الأنظمة والمجتمعات» وهم مجرد ببغاوات يرددون ما يملى عليهم وما التقطوه من بوستات السوشيال ميديا.
وبالرغم من مرور سنوات، شهدت تحولات محليا وإقليميا وعالميا، يفترض أنها أنضجت البعض، وأتاحت فرص التفكير للكل، فإن بعض من يقدمون أنفسهم للعمل العام، ما زالوا يخاطبون جمهورا نضج وشاهد كثيرا، ولا يمكن خداعه بكلام «بالونات»، أو مخاطبة جمهورهم الضيق، من دون اعتراف بأن التريند يمكن صناعته ببعض الجهد ليجذب لايكات أو تصفيقا.
قبل أيام كتبت عن الحوار الوطنى، كأفضل طريقة لإدارة التنوع، وبناء قدرة على فتح مجالات نقاش وتوافق، حول أهم القضايا مع الاختلاف فى التفاصيل، وأن المعارضة والتأييد يجب أن يكونا بمعرفة وتفهم، سألنى البعض بدهشة عما إذا كنت أنصح المعارضة، قلت له إن مصر فى مرحلتها الجديدة تحتاج بالفعل إلى السياسة وإلى العلم والتفكير، معارضة ونقدا، بعيدا عن السطحية والإيفيه.
والقصد ليس تقسيم الناس، فالأشخاص الطبيعيون يسعون لفهم ما يدور قد يؤيدون أو يرفضون بناء على معطيات، والمواطن العادى أو المثقف يفترض أن يسعى للمعرفة والفهم وهو يقدم آراءه، لكن الواقع أن هناك قطاعا من الناشطين على مواقع التواصل ينشرون عشرات البوستات بسرعة واستعجال، وكل منهم يقبل مؤيديه والمصفقين لأفكاره، بينما يرفض الاختلاف أو التفاعل مع ما يطرحه، وبعض من يطالب بحرية الرأى يبادر المختلف معه بـ«البلوك»، ويتهمون كل من يختلف معهم أنه لجنة معادية لأفكارهم بجانب مصطلحات تم نقلها من قنوات ومنصات العداء، أو من باب الكيد.
وفى بعض الأحيان يبدو بعض الناشطين ودعاة المشاركة، أنهم ما زالوا يعيشون فى مرحلة ما بعد يناير والسيولة وتقديس الحالة من دون النظر إلى حجم التحولات التى جرت فى مصر والعالم العربى والعالم، الذى يتحرك بسرعة هائلة، بالطبع فإن الاقتصاد والأسعار والحياة اليومية هى التى تخص المواطن، خاصة الطبقة الغالبة، وهناك أهمية لتفهم هذا فى سياق إقليمى وعالمى، بجانب ما يمكن طرحه محليا، حتى لا يقع هؤلاء فى خداع جمهور، بآراء تنشر الإحباط، أو تعرض وجهات نظر غير واقعية تتجاهل تحولات كبرى فى العالم كله.
وقلت من قبل إنه يجب على بعض الناشطين فى طرح آرائهم ومن يضعون أنفسهم فى مكان قيادة العمل السياسى، ويقدمون أنفسهم باعتبارهم أصحاب الرؤية العميقة لحل كل المشكلات ويمتلكون الرؤية «النهائية» أن يتواضعوا قليلا ويحاولوا فهم تحولات الداخل والخارج، وتقديم أفكارهم بعيدا عن نظرية «قلت لكم» أو «نحن نعرف كل شىء»، فى الاقتصاد والفن والسياسة والسدود والطبخ والصحة وطلوع القمر، ويفتقد بعضهم إلى التواضع أو التسامح وهو أساس العمل العام.
ومن حق كل شخص أن يطرح قناعاته، من دون أن يلزم غيره بتبنى أفكاره، وربما من حق بعض كبار الناشطين والعمقاء أن يعلنوا تأييدهم لأفكار وآراء هذا القائد أو السياسى حتى لو كان «مقاول نصاب»، أو سمسار تمويل منصات «تسويد العالم»، فقط على هؤلاء أن يتواضعوا ويكفوا عن خداع جمهورهم، ويتقدموا كشركاء وليس مجرد معارضين.