“إن فكرة جهنم أو الجحيم هى سمة ثابتة لكل الحضارات، نجدها فى أقدم النصوص البشرية مرتبطة بالمفاهيم الدينية الأولى، كما نجدها فى الكتابات المعاصرة الملحدة، وجهنم مكان كئيب مشئوم يقع فى العالم الآخر أو هى حالة ضيق وغم وجوديين نعيشها بدءاً بهذه الحياة، وهى متعددة الأشكال وقابلة للتكيف تبعاً لنماذج الحضارات”.
بتلك الكلمات يبدأ المؤرخ والأديب الفرنسى جورج بنوا، مدخل كتابه “تاريخ جهنم”، الصادر عن الدار اللبنانية عويدات للنشر والتوزيع، ضمن سلسلة زيدنى علماً، وفيه يستعرض كيف ترى الديانات المختلفة سواء سماوية أو وضعية “جهنم”، وما الصورة المتخذة عنها، حيث أن لا أحد من الأحياء يعرف شكل جهنم حقيقةً والفكرة المتخذة عنها لا تتعدى كونها مكانا مظلما مليئا بكافة أشكال العذابات، يعاقب فيه مذنبين الحياة ويدفعون فيه ثمن أخطائهم الجسيمة التى ارتكبوها خلال حياتهم.
يقول الكاتب الفرنسى عن جهنم إنها ضاربة فى القدم وأنها “مرتبطة بالحالة الإنسانية التى تلقى فيها عذاباتها وأحقادها وتناقضاتها وعجزها”، على عكس الجنة التى هى مكان لتسامى الآمال والأفراح والإرادة الإنسانية السعيدة، وأن جهنم سواء فى وجودها أو عدمه فإنها مرتبطة بالعقاب فضلاً عن إنها مرآة لفشل كل حضارة فى حل مشاكلها الاجتماعية وهى مصدر الغموض فى الحالة الإنسانية، وطالما ظل الإنسان عاجزاً عن حل لغزه الخاص فإنه سيتصور جهنماً ما.
يستعرض الكتاب جهنم فى عدة ديانات والتى وجدت فى الحضارات الشفهية أو الديانات الشرقية القديمة الكبرى، الوثنية الكلاسيكية، العبرانية، التوراتية، وجهنم فى المسيحية والإسلام فضلاً عن جهنم المعاصرة والتحولات التى مرت بها خلال العصور المختلفة.
ترى أفريقيا السوداء على سبيل المثال قبيلة تسمى “السيرير” فى السنغال، ترى جهنم فى باطن الأرض، وهو مكان مشئوم يفقد فيه الإنسان قواه شيئاً فشيئاً، وفى قبيلة “الكيزيس” فى غينيا فإن جهنم توجد فى بلاد الأشرار فى أحشاء الظلمات، وإن قضاء الله ينزل عليهم بطريقة أو بأخرى ويظلوا منبوذين من مقر الأموات دون أن يصابوا بعذاب أليم، فجهنم بالنسبة لهم فى التهميش .
أما فى الديانات الثابتة الكبرى فتظهر جهنم بمعنى مكان للتعذيب تقوم به قوى خارقة للطبيعة بعد الموت، فترتبط جهنم فى هذه الديانات بوجود آلهة تتولى أمر العقاب فى العالم الآخر بعد الموت، أما الديانات الأخرى فيعاقب الفرد نفسه بنفسه بالإقصاء أو غيره، وليس شرطا بأن يكون بعد الموت، كما أنهم يرونه بشكل آخر جانب العقاب، حيث يرون من يتعرض للعذاب فى دنياه سواء تعرض لحادث أليم نتج عنه عاهة دائمة أو تعرض للمرض أو الفقر فهو بمثابة جهنم وإنه روح معذبة فى حد ذاتها .
ويذكر الكتاب أن أقدم النصوص الأدبية العالمية التى تحدثت عن جهنم فهى الألواح الأكادية فى الألف الثامن قبل الميلاد، ويرى شعب ما بين النهرين جهنم بأنها مكان لا يسر والغبار يصيب أجساد الموتى فيها والصلصال طعامهم، يلبسون كالطيور ولا يرون النور وأرواحهم تلوث بالأوحال، بالإضافة إلى أنه لا أمل فى الفرار حيث يحيط بجهنم سبعة أسوار ضخمة.
بينما ترى الحضارة المصرية القديمة جهنم على أنها فناء الكون وفيها يخضعون إلى عذابات تهدف إلى تحويلهم لعدم فتغلى أجزاء منه ويلتهم حيوان مفترس بقاياه، وتراه الديانة الهندوسية بأن له مغزى واحد وهو أن من يختار الشر يحطم النظام الإلهى ويعد لنفسه بنفسه مصير مشوش من العذابات والفوضى.