تفاجأ البعض منا كما أكاد أجزم أنه تفاجأ بعض المسئولين ببرنامج وائل الإبراشى عن الحضانات الإسلامية! وفوجئت أنا برسائل الأصدقاء تستدعينى وتطالبنى بالمتابعة، بعدما كنت قد أخذت قرار مقاطعة التليفزيون واعتزال التعليق على ما يُقدم! فوجدت أن هناك كلمة علىّ أن أقولها ولا أستطيع عليها صبراً فهى مشكلة المشاكل، وهى مشكلة التطرف فى مصر. ومشكلة التطرف فى مصر مشكلة مركبة مستجدة وموجودة ومتجددة وتتشارك فى ذلك عناصر عدة بسبب سياسة غض الطرف وانعدام رقابة الدولة لسنين، وربما التعاون الصامت باعتزالها دورها التنويرى المنوط بها ردحاً من الزمان، متمثلا ذلك فى السياسة الإعلامية الخطأ التى كان ينتهجها إعلامنا لعقود، فاستفحلت المشكلة حتى أصبحت الدولة الآن، مطالبة بدور مضاعف وهو ملاحقة المتطرفين ومنع إنتاج متطرفين جدد.
ومقاومة التطرف الدينى تبدأ بمنع وقوع التطرف بدءا من المدرسة وكل المؤسسات التعليمية بتشديد الرقابة على المعلمين وعلى المناهج، بمعنى العودة بنا إلى وقت كنا نُدَرِّس لطلبة المرحلة الابتدائية كفاح شعب طيبة لنجيب محفوظ، والأيام لطه حسين، لا عقبة بن نافع! وقت كنا ندرس الشيخان وحافظ وشوقى فى الثانوى فنتعلم التذوق الأدبى والنقد والوطنية معا، وقت كان الاهتمام بتدريس المحتوى الذى يساعد على التفتح الذهنى بالنقاش والحوار والنقد والرأى والرأى الآخر يعلمنا احترام الآخر وتقبل الاختلاف، وقت أن كانت تحرص المدارس على تعلم الفن والموسيقى لإثراء الحواس والذوق وتذوق الآداب والفنون، وقت كانت تهتم المدرسة بحصص الرياضة وإقامة المباريات والمسابقات حرصا على الصحة الجسدية والنفسية والترفيه وخلق الروح الرياضية!.. أشياء يجب تصحيح المسار بالعودة إليها أولاً قبل البحث عن الجديد، أشياء أشك أن لها وقتاً فى مدارسنا الحكومية الآن.
كما أنه على وزارة الثقافة دوراً مهما جدا فى أن تدعم كتب التنويريين القدامى للتذكرة بهم من مثل ابن رشد وابن خلدون، وكذلك المحدثين مثل رفاعة الطهطاوى وقاسم أمين ومحمد عبده وطه حسين وعلى عبد الرازق ونجيب محفوظ؛ الذين يرجع لهم فضل الحداثة والنهضة التى كانت؛ وتحرص على توفيرها بأسعار مناسبة وتعمل على تسويقها لاسيما فى معارض الكتب، كما عليها القيام بالندوات التثقيفية والاهتمام بدور المسرح والسينما المحلية والعالمية وما يقدم من خلالهم فى هذا المجال، والأهم من كل هذا دور الإعلام الذى تقع عليه فى الوقت الحالى مسئوليتان أولاً التوقف عن الدعوة للتطرف الدينى بنبذ الاعتقاد الخطأ الذى ترسخ فى ذهن القائمين على الإعلام بأن “وداونى بالتى كانت هى الداء”.
فبعد ما عانت منه مصر بعد الخامس والعشرين من يناير بسبب إخراج طيور الظلام للإعلام وجهرهم بما لم يكونوا يجرؤون على الجهر به قبلاً، أصبحت هناك مبالغة شديدة من الإعلام لا سيما بعد الثلاثين من يونيو وإزاحة حكم الاخوان فى استضافة الشيوخ وزيادة الجرعة الدينية على حساب الوظائف الأساسية للإعلام، كما لم يحدث من قبل وتعمد لإدخال الشيوخ فى كل صغيرة وكبيرة من أمورنا الحياتية، وفى قضايا بعيدة كل البعد عن دائرة تخصصهم من العلوم الحديثة التى تتجاوز مبلغ علمهم بسنوات ضوئية، مثل الطب والاقتصاد والتجارة والزراعة والفلك والچيولوچيا، يظهرهم الإعلام للناس وكأنهم قاسم مشترك أعظم فى كل علوم الدنيا، ويتم التعامل معهم ومع كلامهم فى كل شىء بمنتهى الإكبار والتقديس بتلقيبهم من أصغرهم لأكبرهم بـ”فضيلة الشيخ”، وطرح السؤال تحت عنوان رأى الدين، وكأن علينا الالتزام بما يقولون فى أى وكل المواضيع وكل مناحى الحياة، وكأنهم لا ينطقون عن الهوى فى إيحاء بأن هذا رأى الله وليس رأى بشر!.
وترسخت الفكرة حين قمنا بعمل أكشاك الفتوى فى محطات المترو!! أفهم أن نسأل الشيخ فيتكلم فى الصلاة والصوم والحج وسائر العبادات أما أن يُسأل فيتكلم فى المرض والعلاج مثلاً فهذا غير مقبول وليس من الأمانة فى شىء! كما لا أرى سببا أن يُسأل الشيوخ فى بديهيات الحياة اليومية وكل ما يتعلق بمعانى الإنسانية التى يعيها كل بنى آدم أيا كانوا هندوس أو بوذيين أو ملحدين، بعيدا عن أى اعتبارات دينية على أنها مسائل فقهية تخصنا نحن المسلمين وفقط دونا عن كل العالمين، وأن الإسلام يتفرد فيها برأى خاص ومختلف ولا يمكن أن يقوله إلا شيخ، ومن هذا سؤال أحدهم أحد الشيوخ فى برنامج أخبار صباحى يذاع على القناة الأولى المصرية عن حكم الإسراف فى استخدام المياه، وكأنه سيفاجئنا بما لا نعرف وما لم يدركه أحد من العالمين! أو كأن المصريين لم يفطنون لترشيد استهلاك المياه عبر تاريخهم من وقت الفراعين! وقبل دخول عمرو بن العاص مصر! وإذا أصبح المصريون فى حاجة لسماع مثل هذه الأمور من الشيوخ ولن يفعلوا بغير ذلك سبيلا إذاً نكون نحن بصدد مشكلة عضال أصابت العقلية المصرية وأنها فى حاجة ملحة إلى علاج فورى، وعفواً فإن العلاج لا يكون أبدا على طريقة وداونى، بالتى كانت هى الداء فالدواء لا يكون بتكثيف ظهور الشيوخ فى الإعلام، وحشر الفتاوى الدينية فى بديهيات العقل مما يسطح معنى الدين، ويجعل منا أشخاصا عاجزين عن حسم هذه البديهيات والأمور الحياتية البسيطة بعيدا عن الشيوخ! حتى نكاد نصبح شعب “شيخ لكل مواطن”، ثم لماذا نلقى فى العقول قاله: إن هؤلاء الشيوخ مؤهلون للحديث فى كل مناحى الحياة! وما يدرينا أن رأيهم فى القضايا الشائكة سيختلف عمن هم سبب الداء وكلهم ينهل من معينٍ واحد؟
وثانياً على الإعلام أن يؤدى دوره الأساسى الصحيح والأول فى أن يهتم بتغذية العقول بالمعلومات والأفكار، أن يعمل على تفتحها وانفتاحها على كل جديد فى العلم والعالم، من واجب الإعلام تنشيط الأذهان وتوجيهها نحو حب المعرفة والبحث والابتكار بكل الوسائل تقليدية ومبتكرة أن يحرص على بث الفن الراقى الذى يرتفع بالذوق العام ويرتقى بالفكر والإحساس، أن يستعيد دوره فى إعادة تأهيل العقلية المصرية لمسايرة ركب الحضارة فأين من إعلامنا البرامج التثقيفية التى كانت؟ كان هناك برامج فى الموسيقى تقدمها الدكتورة سمحة الخولى والدكتورة رتيبة الحفنى وكانت هناك برنامج فن الباليه تقدمه منى جبر، وبرنامج نادى السينما للدكتورة درية شرف الدين تقدم أحدث الأفلام، وتستضيف ناقدا متخصصا لتحليل العمل.
وكان هناك صالون ثقافى على أعلى مستويات الثقافة والحرفية لليلى رستم كانت تستضيف كبار الأدباء أمثال طه حسين والعقاد ونجيب محفوظ وتوفيق الحكيم ويوسف إدريس، والموسيقار محمد عبد الوهاب ورياض السنباطى وفريد الأطرش، كان هناك برنامج خمسة لصحتك تقدمه الدكتورة لفتية السبع طبيبة متخصصة على درجة من العلم وشخصية جادة تقدم برنامجاً جاداً يهدف لخدمة القضايا الصحية فى المجتمع، تستضيف أطباء متخصصين تسأل وتناقش على مستوى علمى موضوعى راقٍ يخلو من أى هدف تسويقى على سبيل التوعية والنصيحة لا الدعاية لطبيب بعينه، والذى دائما ما يكون عالماً متخصصا فى مجاله لا يبيع الوهم للناس فى برنامج مدفوع الأجر، كان هناك احترام لمهنة الطب والأطباء، وفى ذلك حماية للمجتمع وصحة الناس.
كان هناك عالم البحار وعالم الحيوان للهواة ولمن يحب أن يعرف وكانت هناك نافذة على العالم تأتينا يومياً بأخبار الفن العالمى والموضة فارتفع الذوق العام فظهر الشارع المصرى والناس فى ذاك الوقت فى أعلى درجات الهندام والجمال اللذين لا يخلوان من الحشمة المرتبطة بثقافتنا الشرقية، وكان يتيح لك يومياً الاطلاع على النوادر التى تحدث فى كل أنحاء العالم فى تلخيص واقتضاب وسرعة تتناسب مع الوقت والعصر تجعلك وكأنك تجول فى كل شوارع الدنيا وأنت لم تبرح مكانك كل شىء، كان منضبطا ومحكما حتى الموسيقى الرائعة التى ما زالت بأذنى تشير إلى مشروعية بل وجوب فن الاطلاع للاقتباس من العالمية الذى كان يرقى بالذوق العام قبل السقوط فى عالم التردى والإسفاف.
أين إعلامنا من مثل هذه البرامج الثقافية التى كانت تحرص على أن يكون لكل جزئية فيها أكبر الأثر فى ثقافة وعقلية المواطن العادى، والبعد به وبالمجتمع ككل عن اخطار التطرف والانحرافات الفكرية والعقائدية.
ليتنا نعيد إعلام الستينيات وما أدراك ما الستينيات..
أ.د/ إيمان رفعت المحجوب
أستاذ بطب قصر العينى