حجم التحولات التى شهدها العالم خلال 3 عقود على الأقل وربما أكثر، يفرض على كل ذى عقل أن يسعى لقراءة ما جرى وتفهمه، والبحث عن تفسيرات لما يدور تساعد فى أن يرى المرء مكانا لقدميه، ومن البديهيات أن على كل من يعمل فى العمل العام ألا يكون على دراية بما يدور من حوله وإلا بقى مغيبا وتائها، وعاجزا عن الفهم، الأمر الذى يرمى به إلى أركان اليأس، فيتحول إلى منتج لليأس لنفسه ولمن حوله، ولمن يراهنون عليه.
نقول هذا بمناسبة ما تعانى منه بعض التيارات السياسية والنشطاء ومحترفى العمل السياسى من مدعى الواقعية أو الراديكالية، الذين بقى بعضهم عند حالة «اللافعل» على مدى سنوات، واكتفوا بالتمثيل المشرف على مواقع التواصل، قانعين بما يجمعونه من لايكات وتصفيقات، أو يمارسون البلوك تجاه بعضهم وضد المختلفين معهم، فيتحولون من مطالبين بالديمقراطية إلى ممارسين لأعلى درجات القمع ضد أنفسهم ومتابعيهم وزملائهم.
وقد يتساءل البعض لماذا نوجه حديثنا إلى من يضعون أنفسهم فى مكان قيادة العمل السياسى، ويقدمون أنفسهم باعتبارهم أصحاب الرؤية العميقة لحل مشكلات الداخل والخارج والعالم والكرة الأرضية، لأن هؤلاء أمامهم فرصة للانخراط فى حوار سياسى يساهمون فيه بآرائهم، التى يقولون إنها تحل كل المشكلات وتواجه التحديات وتعالج الأزمات، لكنهم بدلا من هذا يتفرغون لترديد نفس الكلام الجامد، ويعجزون حتى عن محاورة أنفسهم وزملائهم.
ربما يحتاج أعضاء التيارات السياسية أن يتواضعوا قليلا ويحاولوا فهم تحولات الداخل والخارج، بدلا من البقاء فى المكان، عاجزين عن إقامة حوار بينهم وبين بعضهم، وأنفسهم وتقديم أفكارهم بعيدا عن نظرية «قلت لكم» أو بوستات نحن نعرف كل شىء، ويسهب بعضهم بالتعليق على كل شىء من الاقتصاد إلى الفن ومن السياسة إلى كرة القدم، وهو حق لهم، ومن حق متابعيهم أن يختلفوا أو يتفقوا معهم، لكن ما يحدث أننا أمام مونولوجات، لخبراء فى كل شىء، يتحدث كل منهم باعتباره الوحيد الذى يعرف أو يفهم أو يحلل، ويفتقد بعضهم إلى التواضع أو التسامح الذى يفترض أن يكون أساس العمل العام.
بجانب الغرور فإن بعض من يقدمون أنفسهم كأصحاب رأى سياسى، وفهم عميق، يسارعون بالارتماء فى أحضان منصات وقنوات تعمل بتمويلات وتوجيهات خارجية، باعتراف من يعملون فيها، خاصة وقد أصيب تنظيم الإرهاب بصدمة من رفض دعوتهم أو إشراكهم فى الحوار الوطنى، وبدأوا تكثيف حملات الكذب والشائعات والتهجم والتقارير المغسولة التى يتلقونها من مموليهم، وقد يكون من الحصافة لدى من يقدمون أنفسهم باعتبارهم أصحاب رأى أن يفرقوا بين منصات تعمل بالريموت والتمويل، وبين معارضة محلية تتفاعل وترفض أو تقبل بناء على رأى خاص وتحليل طبيعى، انخرط بعض هؤلاء وفرحوا بالظهور فى منصات الأراجوزات وتحولوا إلى «نمرة» فى قنوات الكذب والتمويل، وكان الأنسب أن يشاركوا فى حوار واضحة أبعاده، بدلا من اللف على منصات الهبد والتزييف.
اللافت للنظر أن منصات التمويل تعيش أكثر أوقاتها سوءا، بعد ظهور عشرات الشهادات من عاملين فى منصات التنظيم الدولى، يكشفون عن علاقات الأجهزة والتمويل وغسل الأموال بهذه القنوات، وأنها تلقت على مدى 10 سنوات مئات الملايين من الدولارات التهموها، من دون أن ينجحوا فى أى من مهامهم، ومع كل هذا الكشف، فإن زعماء العمق الكبير «ذهبوا للحج فى موسم العودة».
هناك أكثر من مثال على ما يصيب بعض السياسيين من الغرور، ناشط خرج بمساعٍ مشكورة من الحوار الوطنى وآخرون ضمن استجابة الدولة والرئيس بهدف لم الشمل وإتاحة الفرصة للحوار والتفهم، فإذا بالناشط ينسى أنه معترف على نفسه بسذاجة الشهرة، وبدلا من أن يحاول مراجعة نفسه وأفكاره، فإذا به ينخرط فى دور «زعامى» كوميدى، فيبدأ فى إعلان مطالب وشروط، فاقدا لأبسط علامات التواضع، وربما عليه أن يشكر من مد له العون، هو أو غيره ويواجه نفسه ويراجع أفكاره بدلا من مشهد «الفكاهة الثورية».
نفس الأمر عندما نتفرج على معركة بين زملاء فى تيار سياسى معارض، عجزوا عن حسم خلافاتهم بالحوار، واشتبكوا باللسان فى حفلات سب وقذف وتشهير، وذهبوا بخلافاتهم إلى جهات التحقيق والقضاء، ثم خرج منهم من يتهم الدولة بالتدخل والانحياز، بينما الحقيقة أن كادرا سياسيا انتقد زميله، الذى رد بتوجيه شتائم واتهامات فى الذمة المالية، وسارع المتضرر ببلاغ إلى جهات التحقيق، ليطالب بإجلاء الحقيقة والدفاع عن نفسه وذمته، وهنا نحن أمام واقعة قانونية تفصل فيه النيابة والقضاء، لكن هناك من يريد تضخيمها، وتجاهل «أولا» والانتقال إلى ثانيا وثالثا، وتحميل الأمر أكثر مما يحتمل، ولو امتلك هؤلاء بعض التواضع، لانتهى الخلاف باعتذار وتفهم، بدلا من الغرور.
نحن أمام نموذج للتعالى وفقدان التواضع، والتمسك بالرأى ممن يفترض أن يكونوا أكثر قدرة على فهم الواقع، فعليا وافتراضيا.