عمار علي حسن يكتب ( المنتدى الإفريقى لمكافحة الفساد.. نظرة أخرى من بعيد )
اختتم المنتدى الإفريقى الأول لمكافح الفساد أعماله فى شرم الشيخ أمس. والاهتمام بمكافحة أهم فى نظرى من مكافحة الإرهاب. فالأخير، على خطره، يدفع الدولة لشحذ طاقاتها فى مواجهته، أما الفساد فيدمر هذه الطاقات أصلا. وإذا كنا نتحدث عن حرب ضد الإرهاب، فالحرب، كما يقول هيجل، تكون فى بعض الأحوال «الحجر الذى يلقى فى البحيرة الراكدة فيمنعها من التعفن»، أما الفساد ففى نظرى هو بمنزلة ماء آسن يزيد هذه البحيرة ركودا وتعفنا.
وعلينا أن نعلم أن الإرهاب يسعى إلى توظيف الفساد، وما يحدثه من إنهاك لقوة الدولة، فى تبرير ما يفعله القتلة والمخربون، وخلق دوائر من المتعاطفين، أو على الأقل دفع الشعب إلى الوقوف على الحياد أو أقرب إليه فى المعركة ضد الإرهاب، وهذا وضع غاية فى الخطورة لا يفيد سوى من يقتلون ويدمرون.
ويجب إدراك أن الفساد لا يقتصر على سرقة المال العام، فهذا، رغم فداحته، هو أقل خطورة من الفساد الإدارى، الذى يتعدى التحجر البيروقراطى إلى تعيين الأقل كفاءة فى المناصب العليا، وهو أمر من شأنه أن يدمر الدولة، ومن يقوم به، أو يرضى عنه، أو يتواطأ معه، إنما يعمل، سواء كان يدرى أو لا يدرى على هدم بنيان المجتمع. وهناك أيضا الفساد السياسى، المتعلق بإهمال إرادة الشعب، والانفراد بالقرار، وكبت الحريات العامة، والتلاعب بالدستور والقانون. ويوجد أيضا الفساد الأخلاقى وهو مرض يصيب المجتمع، حيث تشيع القيم السلبية التى لا تساعد على التقدم.
ويمتلك الفساد قدرة على الانتشار الذاتى، فيتنقل كوباء ذى وضع خاص من بيئة لأخرى بالعدوى. كما يمكن للفساد أن يتصاعد حلزونيا فى المجتمع بمصاحبة انتهاك الأمانة حيث يبرر الفاسد لنفسه خروجه على مقتضيات الأمانة، أو يقع تحت ضغط ما يدفعه إلى هذا دفعا، أو يجد فرصا مواتية لارتكاب الفساد وهو موقن أن بوسعه أن يفلت من العقاب. ويفتح هذا الوضع الباب على مصراعيه أمام تساؤلات لا تنتهى عن الهوة الواسعة بين النصوص القانونية والدينية والواقع الذى ينحيها جانبا، وبقسوة، ليفرض شرائعه الخاصة، المشبعة بالفساد، والقادرة على الإفساد.
لهذا فإن محاربة الفساد لا يجب أن تتوقف عند الطرق التقليدية التى امتلك الفاسدون قدرات عجيبة فى التحايل عليها وتفريغها من مضمونها، وتحديها السافر بالتصرف وكأنها غير موجودة، أو الإفلات منها إن اكتشف فسادهم وقدموا إلى المحاكمة.
وحال وصول هذا الفساد إلى مستوى واسع وعميق فى الدولة والمجتمع، تبرر لمن يصفونه بأنه قد وصل إلى «الرقاب»، يكون على من يكافحونه مسؤولية أشد فى البحث عن طرق مبتكرة، يكون بوسعها أن تتصدى له بشكل حقيقى وليس مظهريا، كما فى كثير من الحالات التى يتحدث فيها مسؤولون عن جهود تبذلها مؤسسات مكافحة الفساد، لكن المواطن العادى يشعر أن الأمور تقف عند حالها القديم، إن لم تكن تتدهور.
إن الفاسد يستجمع كل قدرته على التخيل، وهو يخطط لسلب المال العام، أو التهرب من الضرائب، أو الاتجار فى سلع منتهية الصلاحية، أو تشييد مبان غير مطابقة للمواصفات المطلوبة… إلخ، ومن ثم فإن من يواجهه يجب أن يتمتع بقدرة أكبر على التخيل فى الاتجاه المضاد.
وهذا الخيال يبدأ بالقوانين التى تقى المؤسسات والهيئات والأفراد من الوقوع فى الفساد، فالقانون يجب أن يكون سابقا وليس لاحقا على المسائل التى يعالجها، وهى السبق ليس فى الزمن فحسب، بل فى تخيل المشرع لحالات عدة من الخروج على القانون، أو السلوكيات التى تظهر فى المستقبل، والثغرات التى يمكن أن تنشأ من عدم دقة فى الصياغة.
لكن هذا يتطلب توافر إرادة سياسية حقيقية تضمن توسيع المشاركة المجتمعية فى القضايا المتعلقة بالسياسات العامة. ويجب توافر برامج لمكافحة الفساد، وتوفير ميزانيات تضمن استمرار تلك البرامج. كما يجب وضع نظام عقوبات فاعل ومستمر لدعم أهداف الإصلاح، وكذلك العمل على بناء نظام حكم رشيد يقوم على الشفافية، والمساءلة، وسيادة القانون، وفعالية التشريعات، والفصل بين السلطات والمواطنة، وإشراك الأطراف الفاعلة فى صياغة السياسات والإجراءات والتدابير العامة الرامية إلى مكافحة الفساد، وتوظيف تكنولوجيا المعلومات فى إقامة الحكومة الإلكترونية.
وهناك من يفضل أن تبدأ محاربة الفساد من أعلى، اتكاء على الحكمة المتداولة التى تؤمن بأن «السمكة تفسد من رأسها». أو قول الجنرال أمادو تورى، الذى أطاح برئيس مالى وسلم السلطة لحكومة مدنية منتخبة عام 1992: «عند تنظيف المنزل، يجب أن نبدأ من الطوابق العليا، وأن نرمى النفايات إلى الطابق الأرضى، هكذا تكون الحرب على الفساد، بالبدء من أعلى إدارات الدولة».
وفى كل الأحوال فإن مكافحى الفساد يجب أن يطلقوا خيالهم كى يصلوا إلى طرق ناجعة بغية تحقيق هذه الغاية، وأولها أن يجعلوا الفساد عملية تنطوى على أقصى مخاطرة وأدنى عائد، وأن يفكوا الارتباط بين الفساد وبين العمليات الأخرى التى يعتمد عليها، فهو أقرب إلى النبات الطفيلى الذى لا بد من أن يلتصق بنبات آخر يقتات على زاده، وأن يقوموا بتجريس المفسدين، بما يردع غيرهم الآن وفى المستقبل، وعدم التهاون مع أى فساد صغير.
والأفضل بالقطع هو «المبادرة» التى تعنى وجود سياسات عامة وتشريعات تشكل جدارا عازلا أمام الفساد، بدءا من التعليم الجيد، وتوافر الحريات العامة، وإزالة الاحتكارات، ومنع هيمنة طبقة أو شريحة أو فئة أو أتباع مهنة على الوظائف العليا فى الدولة، والمراجعة الدائمة لنظام الرواتب والأجور والحوافز، وكذلك نظام الضرائب بما يجعلها تحتفظ بعدالة دائمة، والأهم هو وجود قضاء مستقل.