آخر هذه الجولات كانت يوم 20 مايو من العام الماضي، عند تيقن الاستخبارات الأمريكية من “تصفية وسجن” الصين نحو 20 عميلاً دفعة واحدة كانوا يعملون لصالح الولايات المتحدة بين أعوام 2010 و 2012؛ في عملية وصفت بـ”شلّ عمليات التجسس الأمريكية في عموم الصين،” وفق وصف نيويورك تايمز.
CIA اختصار ما يعرف بوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، انكبّت على دراسة الثغرات الأمنية سواءً من ناحية العامل البشري أو هل تنجح الصين في اختراق نظام الاتصال السري للوكالة بعملائها، ألا أن الانقسام الداخلي في الوكالة نفسها كان سيد الموقف.
في 15 من شهر يناير مطلع العام 2017 أعلنت الأجهزة الأمنية الأمريكية عن توقيفها لموظف سابق في وكالة الاستخبارات الصينية، وهو جيري شان شينغ لي، في طريق عودته عبر مطار نيويورك الدولي، وجهت إليه وزارة العدل تهمة حيازة بيانات عن الأمن القومي الأمريكي. ولا زالت التفاصيل المتداولة غير مكتملة للحظة، مع ترجيح ضباط استخبارات سابقين بعدم توجيه تهمة التجسس له لما ينطوي عليه الأمر من تداعيات قد تضطر الوكالة لكشف بعض معلوماتها السرية.
أسوأ الإخفاقات
بالتزامن مع الحادث، أشار تقرير لصحيفة “نيويورك تايمز”، عن الصين، نشر في 20 أيار 2017 إلى “مقتل 12 شخصاً على الأقل كانوا يزودون الاستخبارات الأمريكية بالمعلومات”، ما تسبب في تفكيك شبكة استغرق بناؤها سنوات عدة في واحدة وصفت من “أسوأ الإخفاقات الاستخبارية، بل وصفت بـ”النكسة الموجعة”، حيث قارنتها “نيويورك تايمز”، في خطورتها بقضية الجاسوس، “آلدريج إيمس”، عام 1994 الذي اتهم بالتخابر مع جهاز الـ”كي.جي.بي” الروسي وحكم عليه بالسجن مدى الحياة.
كما كشفت “واشنطن تايمز”، بتاريخ 11 يوليو 2018 عن أن الصين “زرعت زهاء 25 ألف ضابط استخبارات على امتداد الولايات المتحدة يساندهم أكثر من 15 ألف عميل ومجند على مدى 8 أعوام”.
استندت “التايمز”، إلى “معلومات أدلى بها منشق صيني”، هو غو وينغوي، كان يقطن نيويورك، عرّفت عنه بأنه “ملياردير ومستثمر عقاري فرّ من الصين عام 2015، كان له علاقات وثيقة بوازرة أمن الدولة وجهازي الاستخبارات المدنية والعسكرية الصيني”.
الصحيفة أكدت على لسان المنشق الذي “غادر الولايات المتحدة لمخالفته قوانين تأشيرات الزيارة،” أن المخابرات الصينية “نجحت في التسلل إلى حواسيب شركات لتوريد الأسلحة الرئيسية للحكومة الأمريكية”.
الهاتف أيضاً
قال مسؤولون أمريكيون إن “المخابرات الأجنبية وخاصة من الصين وروسيا تعمل بقوة على اختراق وتبادل قواعد البيانات في أمريكا، لتحديد ضباط التجسس الأمريكيين، كما كتبت صحفية “لوس أنجلوس تايمز”، ومن أهم قواعد البيانات التي يتم التجسس عليها تطبيقات التصريحات الأمنية، وسجلات الطيران، ووثائق التأمين الطبية، بالإضافة لمواقع شبكات التواصل الاجتماعي المختلفة.
ووفقاً لاثنين من المسؤولين في الولايات المتحدة، تم اختراق شبكة سرية واحدة على الأقل من المهندسين والعلماء الأمريكيين، الذين يقدمون المساعدات التقنية لعملاء الولايات المتحدة، ووكلائها السريين في الخارج.
وكانت إدارة الرئيس الأمريكي السابق، بارك أوباما سارعت بتعزيز تأمين الحماية السيبرانية للوكالات الفدرالية، والبنية التحتية الحيوية للشبكات الأمريكية، بعد وقوع العديد من الهجمات الإلكترونية ضد أهداف أمريكية، منها مواقع حكومية وأنظمة بريد إلكتروني وحسابات خاصة على وسائل الإعلام الاجتماعية، علاوة على بيانات حساسة تشمل أرقام الضمان الاجتماعي، والمعلومات المالية، والسجلات الطبية، وغيرها من البيانات الشخصية لملايين من الأمريكيين.
وقال وليام إيفانينا، أهم مسؤولي مكافحة التجسس في الاستخبارات الأمريكية: “إن التحليل الرقمي للبيانات المقرصنة يمكنه أن يكشف للخصوم ضابط المخابرات، وأين ومتى يسافر، ومن لديه صعوبات مالية، ومن لديه مشاكل طبية، وبالطبع تكوين صورة عامة عن طبيعة العمل داخل وكالات الاستخبارات وعملائها”.
“بيت الملذات”
الكشف عن أهمية الدلالة في تطورات التجسس منذ العام 2010 ليس بالعسير، والجهود الأمريكية المكثفة لبناء مقر حديث لسفارتها في “بيغنغ”، بأيدي عمالة أمريكية صرفة، حيث أشارت أسبوعية “نيوزويك”، بتاريخ 20 مايو 2017، أن “عامل تودد عملاء استخبارات صينيين سريين لمصادقة العمال الأمريكيين وإغرائهم بالترفيه الجنسي” لفتح ثغرة داخلية لاستقاء وجمع المعلومات والاختراق يعرف في عالم الجاسوسية بـ “بيت الملذات”.
وعرف العام 2010 بطفرة تدفق المعلومات الاستخباراتية رفيعة المستوى عن الصين من مصادر موثوقة شملت بعض الأفراد الغاضبين من استشراء الفساد داخل الحكومة الصينية،” وفق المجلة الأسبوعية نيوزيك.
في نهاية عام 2010، استشعرت وكالة الإستخبارات المركزية الأمريكية، وفق سرديتها الأسبوعية، انحساراً في تدفق المعلومات “وبدء اختفاء بعض المصادر في مطلع عام 2011”.
وسارعت كل من الوكالة المركزية ومكتب التحقيق الفيدرالي، FBI للتحقيقات مشتركة للتيقن من مصدر الاختراق، بدءاً بمراجعة شاملة، “لكافة العمليات الاستخباراتية التي تصدر الأوامر بتنفيذها من محطة “بيغنغ”، حيث خضع للتحقيقات كافة موظفي السفارة الأمريكية هناك”، وفق تقرير يومية للنيويورك تايمز.
وأوضحت الصحيفة أن جهود التحقيق آنذاك انصبت على عضو سابق في الوكالة المركزية تقع الصين ضمن نطاق مسؤولياته، بيد أنه “لم تتوفر أدلة كافية لاعتقاله؛ ويرجح بعض الخبراء أن الحكومة الصينية نجحت في اختراق نظام الوكالة للاتصالات السرية، “كما لم يستبعد أولئك الخبراء عامل “الإهمال” بين سلوكيات ضباط المخابرات في محطة الصين، والتي تشبه الى حد بعيد الاتهامات التي وجهت لضباط الوكالة في محطة لبنان قبل نحو 7 سنوات.
غطرسة الوكالة
منذ ولادة وكالة الاستخبارات الأمريكية عملت على تقسيم الساحات العالمية إلى مناطق نفوذ تستند إلى اعتبارات ومعايير جيواستراتيجية وعسكرية، تتواجد في معظم المحطات على شكل “هيئات ومؤسسات وواجهات رسمية مختلفة.. تشمل توظيف سياسيين وديبلوماسيين والكفاءات العلمية ووفود الدورات العسكرية، ومنظومة رجال الأعمال” بل وطواقم رياضية، وفنية، والحركات الدينية؛ لتحقيق الأهداف الاستراتيجية للسيطرة، والتحكم بالموارد الطبيعية، ومصادرة القرارات الرامية للتنمية المحلية، وتحقيق الازدهار الاقتصادي في أي بلد كان.
“التعاون” بين وكالة الاستخبارات والمؤسسات الإعلامية لتسهيل انخراط وتوفير غطاء مهني لعملاء الأولى لا يزال محط اهتمام وملاحقة، ما يعنينا هنا الإشارة السريعة إلى مذكرة وجهها عام 1946 رئيس “مجموعة الاستخبارات المركزية”، الجنرال “هويت فاندنبيرغ”، صاحب وناشر يومية نيويورك تايمز، آرثر سالزبيرغر، يناشده تعاون الصحيفة لتسهيل عمل “الاستخبارات المركزية” بجمع وتحليل المعلومات عن الدول الأجنبية “التي تحتاجها الولايات المتحدة لضمان أمنها القومي”.
الإجابة لم تتأخر إذ أكد سالزبيرغر لرئيس الوكالة أنه “يمكنكم الاعتماد دائماً على مساعدة كافة العاملين في “نيويورك تايمز…” مراسلو الصحيفة التزموا بتعليمات مرؤوسيهم للحصول على تقارير تحليلية الطابع، ومفصلة عن البلد المعني، “كانوا يرسلونها عبر السفارات الأمريكية إلى محرريهم.. مصنفة رسائل سرية”، أي لا تفتح إلا للمرسل إليه، “المصدر” وهو ما أكدتهُ “مجموعة جورجتاون” والتي حملة عنوان “أصدقاء ومتنافسين في واشنطن إبان الحرب الباردة”، للمؤلف، “غريغ هيركن”.
روسيا والصين وإيران
من أبرز المحطات التي تناولها التقرير الاستخباراتي توقعات الوكالة لما تعتبره أن الولايات المتحدة “ستشهد خلال السنوات الخمس القادمة ارتفاعاً في مستويات التوتر بين عدة دول داخلياً وخارجياً.. المخاطر الإرهابية قد تشهد تطوراً من حيث الانتشار والأساليب المعتمدة.. الحكومات ستواجه قضية مركزية في كيفية تعزيز جهودها للتحالف فيما بينها لفرض الأمن..”.
وما لفت الأنظار في التقرير المعد عشية الانتخابات الرئاسية الأميركية توقع “ارتفاع ملحوظ في منسوب التوتر بين القوى الإقليمية، وخاصة الصين وروسيا عند حلول عام 2020..” موضحاً ان هاتيك الدولتين وإيران “.. ستعمل على استغلال تراجع نفوذ الولايات المتحدة على المستوى العالمي لتتصارع فيما بينها لملء الفراغ كقوة عالمية جديدة..”.
وحذر التقرير أن “.. الولايات المتحدة لن تقبل أن تأخذ مكانتها العالمية دولة أخرى، علماً أن ذلك قد يكلفها مواجهة مباشرة مع الصين أو روسيا.”
عند هذا المفصل الهام، نستعيد تصريح وزير الدفاع الأميركي، جيمس ماتيس، 19 يناير الجاري، بحصر ما أسماه “التنافس” مع كل من الصين وروسيا كأولوية في استراتيجية الولايات المتحدة بدلاً من خطر “الإرهاب”.
وكتبت الصحيفة إنه بالرغم من أن أنشطة التجسس الأمني تعد أيضا واسعة النطاق في الولايات المتحدة، إلا أن السلطات في موسكو وبكين في كثير من الأحيان تتعاونان أيضا مع قراصنة ذوي نشاطات إجرامية وشركات قطاع خاص لإيجاد واستخراج البيانات الحساسة من أنظمة الولايات المتحدة، بدلا من سرقتها بأنفسهم، ويشكل ذلك الأمر صعوبة للولايات المتحدة في الرد بهجمات انتقامية.
علاقة الاستخبارات المركزية الأمريكية بنظيرتها وكالة المخابرات البريطانية تصل إلى حد التكامل والعمل بالتوازي في عدد من “المحطات” الدولية الهامة؛ وما ينطوي على ذلك من تبادل الخبرات والبيانات والمصادر البشرية، والعلاقات الوثيقة التي تنسجها مع الدول المعروفة استخباراتياً بـ”الحليفة،” أبرزها جهاز الموساد الإسرائيلي، وجهاز الاستخبارات الألمانية، “بي.أن.دي”.