كثر الحديث عن الإرهاب وازدادت وتيرته. ليس فى سيناء وحدها بل امتدت إلى أرض الوادى أيضا وإلى المحافظات، بل وإلى قلب القاهرة. لا يهدف إلى رجال الأمن، الشرطة والجيش فقط والمبانى الحكومية مثل مديريات الأمن بل أيضا إلى حياة المواطنين الأبرياء فى الكنائس والمساجد، أقباط ومسلمين. وربما يتجاوز الإرهاب الغرض المباشر منه. وهو إحداث قلق للنظام السياسى إلى هدف أبعد. وهو تفتيت مصر وتجزئتها، أسوة بسوريا والعراق وليبيا واليمن كى ينتهى مركز الثقل فى الوطن العربى. فيختل توازنه. فيتردى ويهوى، دون أى فرصة أخرى للقيام من جديد. وكما حدث للدولة العثمانية وتفتيت الرجل المريض إلى أجزاء. ثم توزع على القوى الاستعمارية فى ذلك الوقت، فرنسا وبريطانيا.
والقضاء على الإرهاب ليس بالخطب الرنانة ولا بالأحلاف ولا حتى بأجهزة الأمن وحدها، ولكن بالتعرف على علله وأسبابه الداخلية قبل الخارجية. فالأولوية للداخل على الخارج. ولو لم ينشأ الإرهاب بالداخل أولا لما استطاع أن يجد تأييدا ومساعدة وتمويلا من الخارج. ويرجع السبب فى ذلك إلى اعتبار الخطباء أن العلة الخارجية لها الأولوية على العلة الداخلية. فالله فعال لما يريدون «وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ». وهو عجز عن التفسير بالعلل المباشرة كما يفعل علماء أصول الفقه فى تحليل العلل المباشرة المتحكمة فى الظواهر الاجتماعية. وفى نفس الوقت هرب من التعامل مع الواقع المر، وتعمية للحقائق كما يفعل الإعلام، كالنعامة التى تخفى رأسها ويظهر جسدها.
الإرهاب هو نوع من العنف. وهو ليس فقط استعمال القوة والعنف ولكنه أيضا كل أنواع الكبت والقهر. فالإرهاب هو فى الحقيقة إرهاب مضاد، إرهاب مرئى ضد الإرهاب اللامرئى، إرهاب جسدى ضد الإرهاب المعنوى، إرهاب الأفراد والجماعات ضد إرهاب النظام السياسى للدولة. فالعنف السياسى من نظام الحكم هو السبب الأول للإرهاب الجنائى. الإرهاب السياسى هو غياب الديمقراطية والحريات العامة التى هى من حقوق الإنسان الطبيعية. هو الاستبداد فى نظام الحكم كما عرض الكواكبى فى «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد». الإرهاب هو عنف متبادل بين الحكومة والمعارضة. الحكومة تسيطر على كل شىء فى المجلس النيابى، ومنظمات المجتمع المدنى، والإعلام، والجامعات بل والقضاء، وإقامة المحاكم العسكرية للمدنيين، وقانون منع التظاهر، وقانون الطوارئ. فلم يعد لدى المعارضة إلا العمل السرى تحت الأرض أو العمل العلنى الذى يقوم على العنف أو الهجرة خارج البلاد. ويمد لهم الكثيرون يد العون. والبعض يفضل النكات المصرية التى تعبر عن الموقف السياسى فيتحول البكاء إلى ضحك، والحزن إلى فرح، والكبت إلى مرح.
من جذور الإرهاب إذن منع حرية الفكر والتعبير، والسيطرة على جميع وسائل الإعلام والنقابات والاتحادات ومنظمات المجتمع المدنى بل والقضاء وهو آخر ملجأ للمظلومين. فيختنق المجتمع. وينتفض كى يفك اليد عن رقبته باندفاعة الحياة، وغريزة حب البقاء. وهو الحكم بمنطق الفرقة الناجية. أما الفرق الهالكة فهى جميع تيارات المعارضة الإسلامية أو الليبرالية أو القومية أو الماركسية، يمينا ويسارا. هو حكم الرأى الواحد، والفرد الواحد «مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِى». فتضطر المقاومة للاستبداد لمغادرة البلاد خوفا من السجن والاعتقال والتعذيب والاختفاء القسرى. وتبدأ نشاطها من الخارج، من الدول القريبة أو البعيدة، مستعملة القنوات الفضائية والبث الهوائى وجميع وسائل التواصل الاجتماعى. ومع ذلك تبقى محدودة الأثر مثل العنف الداخلى. فكلاهما لا يحرك شيئا. فالشعب لا يتحرك إلا إذا فاض به الكيل كما حدث فى 25 يناير 2011 وكما فعل الضباط الأحرار ضد الملك والإقطاع والاستعمار والرأسمالية والفساد فى 23 يوليو 1952.
فإن قيل: ولكن الإرهاب موجود أيضا فى الغرب، أوروبا وأمريكا، أفريقيا وآسيا والبلاد الغربية تسير وفقا لنظام ديمقراطى. فلا يوجد رباط ضرورى بين الإرهاب والاستبداد. يقال: نعم إن الإرهاب أيضا موجود فى البلاد الغربية عند الجماعات المضطهدة عرقيا أو دينيا. ويوجد أيضا عند الأوروبيين أنفسهم ضيق بمظاهر الحضارة الغربية وبحث عن مثل أعلى جديد بعد أن أصيب بخيبة أمل بمثله الأعلى الأول وهى الحداثة وما خلقته من مجتمع مادى استعمارى عنصرى كما حدث فى مظاهرات الشباب فى مايو 1968. فيتحول من الضد إلى الضد، من الحداثة إلى التقليد، إسلاما أو مسيحية أو يهودية.
الإرهاب إذن سببه داخلى سواء فى الوطن العربى أو البلاد الغربية مع اختلاف الأسباب والظروف الاجتماعية والمراحل التاريخية. والعامل الخارجى مجرد عامل مساعد. فلو لم يجد الإرهاب لنفسه تربة فى الداخل لما استطاع الخارج أن يفعل شيئا. وإلقاء التهمة على الخارج القصد منه إخفاء الأسباب الداخلية للإرهاب. وهو ليس فقط بين الدولة والمعارضة بل فى المجتمع بين المواطنين أنفسهم: الأب الذى يقتل أبناءه، والأم التى تقذف بوليدها من النافذة، والأخ الذى يقتل أخيه، والشقيق الذى يقتل شقيقته، والجار الذى يقتل جاره لخلاف على سعر كوب شاى أو دراهم معدودة. لم تعد للحياة قيمة. فيقتل الأبرياء «وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ. بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ». صحيح أن الإرهاب السياسى نتيجة الصراع على السلطة، والإرهاب الاجتماعى نتيجة للفقر والضيق بالنفس، واليأس من الحياة، وتساوى الحياة مع الموت. وفى كل الحالات الشعب هو الخاسر. والقاتل والمقتول فى النار. القاتل لأنه قتل، والمقتول لأنه كان حريصا على قتل صاحبه. فالبحث عن جذور الإرهاب أولى من التعامل مع نتائجه، خاصة إذا كانت النية خالصة للتغيير وليس باستبدال إسرائيل كموضوع أولى فى الوعى القومى. فالبداية إذن بلوم النفس قبل لوم الآخر «إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ».