شهدت محافظة مطروح أكبر تجمع أوروبى لإحياء الذكرى الـ٧٦ لموقعة العلمين الشهيرة، التى دارت رحاها على أرض مدينة العلمين، عشية 24 أكتوبر عام ١٩٤٢، وراح ضحيتها الآلاف من الجنود الذين شاركوا فى الحرب العالمية الثانية.
موسيقات عسكرية وجنائزية وأكاليل زهور على مقابر الجنود الألمان والإيطاليين والبريطانيين والفرنسيين، حتى النيوزيلنديين والاستراليين وغيرهم، ولم يتذكر ممثلو تلك الدول وفاة نحو 8513 ـ حسب آخر إحصاء ـ هم ضحايا الألغام التى زرعوها فى العلمين.
وحدهم المصابون بالألغام أو الناجون منها، أولئك المنسيون فى كل ذكرى للحرب العالمية الثانية، فيما يأتى أبناء الغرب ليتذكروا موتاهم الذين فقدوهم بكل أسى، ولا يعلمون أن هناك على هذه الأرض أسى من نوع آخر بسبب «الألغام» التى حولتهم إلى أشخاص آخرين وعطلت أحلامهم وأوقفت مسيرة حياتهم وتركتهم «موتى على قيد الحياة». وتعانى محافظة مطروح من وجود 17 مليون لغم باقية تحت ترابها مهددة أبناء المحافظة الذين يصل عددهم لنحو نصف مليون نسمة بخطر الألغام، وفى مطروح وحدها 20% من ألغام العالم، وكل دقيقة تمر دون حل لمشكلة الألغام يزيد عدد الأبرياء من الضحايا أو على الأقل هناك مصاب برىء كل مشكلته أنه يمشى على تلك الأرض التى تحولت لحدائق مفتوحة للشيطان.
نصف مليون نسمه يعيشون على 17 مليون لغم وبحسبة بسيطة فإن نصيب الفرد من أبناء مطروح من هذه الألغام حوالى 34 لغما لكل مواطن. ورغم الجهود التى بذلتها القوات المسلحة فى إزالة نحو 3 ملايين لغم بمساعدة شركاء فى التنمية من الاتحاد الأوروبى، إلا أن أرض المحافظة تحولت إلى مصيدة للأبرياء، وقلبت الإصابة بالألغام عيشتهم رأسا على عقب، بخلاف من راحوا ضحية هذه الألغام.
الشهيبى.. مصاب ألغام تحول لرئيس جمعية أهلية لرعاية المصابين
عبدالله الشهيبى مصاب بالألغام، وهو فى نفس الوقت رئيس جمعية ضحايا الألغام للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، قال إنه حين أصيب بالألغام وتحول من شخص عادى إلى مصاب تحولت حياته وانقلبت رأسا على عقب، وأحس أنه والمصابين مثله فى واد والجميع فى واد آخر.
وأضاف: «الناس لا تعرف شيئا عن الألغام وأخطارها ونواتجها السلبية على المصابين وعلى حياتهم الاجتماعية والنفسية هذا إلى جانب التغيرات الاقتصادية التى تطرأ على المصاب بعد إصابته باللغم فيفقد أغلبهم أعمالهم بسبب الإصابة، وأنا درت كثيرا فى أروقة الدولة بكافة فروعها للحصول على حقى، وقابلت الكثيرين ممن هم فى مثل حالتى ووجدت فى النهاية أنه «لن يحك جلدك مثل ظفرك» فخطرت لى الفكرة بأن المصابين أولى بأنفسهم للحصول على حقوقهم وشرعت فى تنفيذ الجمعية بعدما لاقت ترحابا من زملائى المصابين».
ويرى الشهيبى أن الدولة مقصرة فى حق مصابى الألغام بقدر كبير قائلا: «نحن ليس لنا ذنب فى تلك الإصابات التى خلفت لنا عاهات وتسببت فى بتر أعضاء من أجسامنا دون أن نذنب فى حق المجتمع ولا أحد أفراده، فأنا مثلا كنت أقوم فى النجع الذى تربيت فيه بأعمال الزراعة وحينما كنت أمسك بالفأس فوجئت بانفجار هائل ولم أعى ما حدث إلا بعد أيام حينما وجدتنى بدون ذراعى اليمنى وفقدت إحدى عينى فى الحادث بالإضافة إلى إصابات أخرى أقل فى أنحاء متفرقة فى الجسم خلفها الانفجار الناتج عن اللغم».
ويضيف عبدالله الشهيبى: بصفتى رئيس جمعية أهلية لرعاية مصابى الألغام بمطروح ومسؤول عن مساعده ضحايا الألغام أطالب الدولة بطاقات تعريف وهوية للمصابين بالألغام توفر لنا العلاج المجانى لرعاية الإصابات بالبتر، وغيرها جراء الألغام برعاية صحية طويلة المدى، كما أطالب الدولة أن تعفى المصابين بالألغام من رسوم التعليم حتى الجامعى لمن يريد إكمال دراسته وبأن تعفيهم من دفع ثمن المواصلات الداخلية فى محافظاتهم والمواصلات الخارجية بين محافظتهم والمحافظات الأخرى لأننا نحتاج للسفر إلى القاهرة أو الإسكندرية لاستكمال العلاج أو تغيير أطراف صناعية، مما يستلزم سفرنا لعدة مرات وبالإضافة إلى الإرهاق البدنى هناك إرهاق مادى على مصاب الألغام. ويشير الشهيبى إلى أن مصابى الألغام يحتاجون إلى رعاية أولى من الدولة خاصة فى إعادة التأهيل النفسى والسلوكى لأن المصاب باللغم يكاد يصل إلى حالة من حالات العزلة بعد إصابته وتتوالد لديه أحاسيس سلبية كثيرة يجب أن يتم إعادة تأهيله نفسيا من أجل التخلص منها ورجوعه مرة أخرى إلى المجتمع بإحساس لا يشى بأنه شخص غير كامل أو غير نافع وهذا التأهيل النفسى يجب توفيره للمصابين منذ إصابتهم وحتى شفائهم.
عبدالله: كرهت الحياة ووجدتها سوداء بعد الإصابة.. واعتزلت فى المنزل عامين
عدد كبير من المصابين بالألغام هم حجر الزاوية فى المشكلة، وكثيرون حين يتحدثون عنها يتكلمون عن الجانى وينسون المجنى عليه.. عن آمالهم وأحلامهم تحدث المصابون والضحايا الذين يعدون الحلقة الأضعف فى دائرة الخطر التى تحيق بالكثيرين من أبناء مطروح.
عبدالله الفردى، أحد مصابى الألغام فى محافظة مطروح، رافقنا إلى مكان إصابته بعد تفكير وكاد أن يرفض لولا أننا أكدنا له أن وصف الانفجار وأثره على المصاب يجب أن يصل إلى الناس ويعلموا كيف يعانى منه، وتتحول حياته من مواطن عادى مقبل على الحياة إلى مصاب.
يقول عبدالله: «مصيبة أن تتحول من شخص كامل الأعضاء إلى فاقد لعضو أو أكثر دون جريمة تقترفها.. اللهم إلا المشى على أرض تمتلئ بالألغام».
وتابع قائلا: «اسمى عبدالله عمر عبدالعال الفردى 29 سنة مواليد 1985 مدينة مرسى مطروح مؤهل متوسط دبلوم صنايع قسم كهرباء عام 2003 من مدرسة الثانوية الصناعية».
ويتذكر عبدالله حادث إصابته فى أبريل من عام 2000 قائلا: «كنت وقتها فى العام الأول بالمدرسة الثانوية الصناعية، وكنا قريبين من الاختبارات النهائية للعام الدراسى بالمدرسة وكان يوم الجمعة 28 أبريل 2000» مشيرا إلى أن مصاب الألغام لا ينسى تاريخ إصابته أبدا.
وأضاف: «كانت عطلة أسبوعية اتفقنا أنا وبعض أصدقائى على أن نخرج فى ذلك اليوم للترفيه فى الصحراء ونقوم بعمل «زردة» وهو مصطلح متعارف عليه بين أهالى مطروح حينما يشيرون إلى القيام برحلة خلوية للتنزه طيلة اليوم ومن الشائع أن تكون فى مكان صحراوى خال من السكان. وقمنا يومها بتأجير سيارة لتوصلنا إلى مكان الزردة على أن تعود لتأخذنا آخر النهار فى الخامسة عصرا، وبعد وصولنا إلى المكان قمنا بنصب خيمة صغيرة فى المنطقة التى اخترناها لعمل «الزردة»، وكانت بمنطقة «غوط رباح» التى تبعد بضعة كيلومترات عن مدينه مطروح، وكانت وقتها منطقة خالية من السكان ولم تمتد إليها يد الإعمار بعد».
وفوجئت بوجود جسم غريب يظهر من سطح الأرض يشبه علبه الجبنة «النيستو» فى الحجم ولونه داكن وجسمه من الخارج يبدو أنه معدن ولم أستطع التعرف عليه وكنت وقتها مازلت احتفظ ببراءة الطفولة التى دعتنى لمعرفة ماهية هذا الجسم».
وأوضح عبدالله: «كان معى صديق لى يدعى يوسف من المدرسة التجارية، شاهد نفس الجسم الغريب الذى استرعى انتباهه أيضا، ومددت يدى إلى سطح الأرض لأحمل ذلك الجسم وبالفعل أخذته إلى مكان تجمعنا وجلسنا تحت شجرة صغيرة بجوار خيمتنا، وحاولت مع زميلى أن أتعرف على الجسم وجلسنا على الأرض، وكان يجلس على مسافة غير بعيدة منى بحوالى متر واحد تقريبا زميلى يوسف، وبالعبث فى أجزاء ذلك الجسم انفجر فى وجهى ليصيبنى أنا وزميلى، فسقطنا على الأرض».
وقال عبدالله: «وجدتنى أتنفس بصعوبة ولا أستطيع الرؤية بشكل واضح، ووجدت صعوبة فى التحدث أو تحريك أى جزء من جسدى لأثبت فقط لنفسى أننى مازلت على قيد الحياة، وطلبت من أحد زملائى شرب الماء، ورفض أحدهم طلبى بعد ما رأى كم الدماء التى نزفتها، وكانت هناك بعض ملابسنا مازالت بالخيمة أسرع فى إحضارها وقام بربط أجزاء كثيرة كانت تنزف من أطراف جسدى، والذى عرفته بعد ذلك أن يوسف زميلى ترك الانفجار فى إحدى عينيه أثرا بعدما أفقده البصر بتلك العين، أما أنا ففقدت كف اليد كاملا، وروى أنه كره الحياة ووجدها سوداء تماما بعد إصابته وكثيرا ما كان يتحسس الأجزاء التى بترت من يده اليسرى بكثير من الحسرة والألم.
وتابع: «مكثت فى المنزل نحو عامين لم أطق فيهما أن أرى بشرا».