الركن الإسلامي

حكم من مات غنيا ولم يحج

هل يجبُ الحجُّ بمجرد وجود الاستطاعة، أم يجوزُ التأجيل؟ وما حكمُ من مات غنيًّا ولم يؤدِّ فريضةَ الحج؟

 

الجواب : الأستاذ الدكتور / شوقي إبراهيم علام

الحج لغةً: القصدُ، وقال جماعةٌ من أهلِ اللغة هو: القصدُ لِمُعظَّم.

وأما في الشرع: فقد عرَّفه الشريف الجرجاني في “التعريفات” (ص: 82، ط. دار الكتب العلمية) بأنه: [قصْدٌ لبيتِ الله تعالى بصفةٍ مخصوصةٍ، في وقتٍ مخصوصٍ، بشرائطَ مخصوصةٍ] اهـ.

والحجُّ فرضٌ على كل مكلَّف مستطيع في العمر مرَّةً، وهو ركنٌ من أركانِ الإسلام، واختلفت الرواياتُ في السَّنَة التي فُرِض فيها، ورجَّح أصحابُ السير أنه فُرِض في السَّنَة السادسةِ من الهجرة، وقد ثبتت فرضيتُه بالكتاب والسُّنَّة والإجماع.

فمن الكتاب قوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ [آل عمران: 97].

وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: “أي: ومن كفر باعتقاده أنه غير واجب”.

ومن السُّنَّة: ما رواه الشيخان -واللفظ للبخاري- عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: «بُنِيَ الإِسْلامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَإِقَامِ الصَّلاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالْحَجِّ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ» وكذلك ما رواه الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه قال: خَطَبَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم فَقَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ فَرَضَ اللهُ عَلَيْكُمُ الْحَجَّ فَحُجُّوا». فَقَالَ رَجُلٌ: أَكُلَّ عَامٍ يَا رَسُولَ اللهِ؟ فَسَكَتَ، حَتَّى قَالَهَا ثَلاثًا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: «لَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَتْ، وَلَمَا اسْتَطَعْتُمْ».

وأما الإجماع: فقد حكاه العلامة شمسُ الدين الرملي في “نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج” (3/ 234، ط. دار الفكر)؛ حيث قال: [وهو مُجمَعٌ عليه، يكفر جاحده إن لم يَخْفَ عليه] اهـ.

وقال العلامة ابن قدامة المقدسي في “المغني” (3/ 213، ط. مكتبة القاهرة): [وأجمعت الأمة على وجوب الحج على المستطيع في العمر مرَّةً واحدةً] اهـ.

وضَبَطَ الفقهاءُ الاستطاعةَ بقوَّةِ البدنِ وتحمُّلِه، وبأن يملكَ الحاجُّ الزادَ له ولمن يعولُ حتى يرجعَ، وأن يملكَ الرَّاحلة، ويأمنَ الطريقَ، ويُمكِّنه الوقتُ من أداء الحج، وهذا عامٌّ في الرجال والنساء، وتزيد المرأة بخصلتين أُخرَيين؛ حيث يُشترط لها ألا تكونَ معْتدَّةً عن طلاقٍ أو وفاةٍ في الميقات الزماني للحج، وأن تكونَ في صُحبةٍ آمنةٍ؛ كوجود زوج أو رفقة مأمونة، وتحصل -على المفتى به- بأن تطمئن على الأمان في دينها ونفسها وعِرْضها في سفرها وإقامتها.

قال العلامة بدر الدين العيني الحنفي في “منحة السلوك في شرح تحفة الملوك” (ص: 284-285، ط. وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية) [قوله: (فرض على كل مكلَّف)، أي: حر عاقل بالغ.. (صحيح) احتراز عن المريض، والمقعد، والمفلوج، ومقطوع الرجلين، والزَّمِن الذي لا يستطيع الثبوت على الراحلة بنفسه، (قادر على زاد وراحلة)؛ لأنه عليه السلام فسَّرَ الاستطاعةَ به. قوله: (غير عقبة) صفة لقوله: (راحلة) قيد بها؛ لأنها إذا كانت عقبة لا يجب عليه الحج. والعقبة: أن يكتري رجلان بعيرًا واحدًا يتعاقبان في الركوب، يركبُ كلُّ واحدٍ منهما مرحلة ويمشِي مرحلة. قوله: (ونفقة ذهابه ورجوعه)، أي: قادرًا على نفقة ذهابه إلى مكة ورجوعه منها. قوله: (فاضلًا)، أي: حالَ كونِ الزَّادِ والراحلةِ ونفقةِ الذهاب والرجوعِ فاضلًا (عما لا بد منه لعياله إلى وقت رجوعه)، (بشرط أمن الطريق)؛ لأن الحجَّ لا يتأتَّى بدونه، فأشبه الزاد والراحلة.. (والمحرم أو الزوج شرط في المرأة إذا كان سفرًا) وهو: مسيرة ثلاثة أيام فصاعدًا؛ لقوله عليه السلام: «لا يحِلُّ لامرأةٍ تؤمِنُ بالله واليومِ الآخرِ أن تسافِرَ سفرًا يكونُ ثلاثةَ أيامٍ فصاعدًا إلا ومعها أبوها أو ابنُها أو زوجُها أو أخوها أو ذو محرَمٍ منها» رواه مسلم وأبو داود.

وهذا حُجَّةٌ على الشافعي؛ حيث يجوزُ لها الخروجُ مع النساء الأمينات. قوله: (ونفقة المحرم عليها) أي على المرأة؛ لأنها لا تتمكَّن من الحج إلا بالمحرم، كما لا تتمكَّن إلا بالزاد والراحلة] اهـ.

وقال العلامة العمراني الشافعي في “البيان في مذهب الإمام الشافعي” (4/ 25-26، ط. دار المنهاج): [مسألة شروط الاستطاعة: وأما غير المستطيع: فلا يجبُ عليه الحجُّ والعمرةُ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾ [آل عمران: 97]. والمستطيع اثنان: مستطيعٌ ببدنه، ومستطيعٌ بغيره: فأما المستطيع ببدنه فله شروط:

أحدها: أن يكونَ صحيحَ البدنِ.

الثاني: أن يكونَ واجدًا للزَّاد والماء بثمن المثل، في المواضعِ التي جرت العادَةُ بوجوده فيها.

الثالث: أن يكونَ واجدًا لراحلة تصلحُ لمثله، إن كان بينه وبين مكَّةَ مسافةٌ تُقصرُ فيها الصلاة.

الرابع: أن يكونَ الطريق آمنًا.

الخامس: أن تجتمعَ هذه الشروط وقد بقي من الوقت ما يتمكَّنُ فيه من الوصولِ إلى الحج، فإن كان مريضًا تلحقُهُ مشقَّةٌ غيرُ معتادةٍ في الركوب.. لم يلزمه الحج؛ لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ: «من لم يمنَعْهُ من الحَجِّ حاجَةٌ ظاهرةٌ، أو مرَضٌ حابِسٌ، أو سُلطانٌ جائِرٌ، فمَاتَ ولم يحُجَّ.. فليمُتْ إن شاء يهوديًّا، وإن شاء نصرانيًّا»] اهـ.

وقد أجمَعَ الفقهاءُ على أنَّ المستطيعَ إذا أجَّل الحجَّ حتى أدَّاه في آخِرِ عمره، سقَطَ عنه الإثمُ. قال العلامة الزيلعيُّ الحنفيُّ في “تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق” المطبوع مع “حاشية الشِّلْبِي” عليه (2/ 3، ط. المطبعة الكبرى الأميرية): [ولو حَجَّ في آخِرِ عمره ليس عليه الإثمُ بالإجماع، ولو مات ولم يحُجَّ أثِمَ بالإجماعِ] اهـ.

وأجمعوا كذلك أنه وإن أخَّره سنينَ ثم حجَّ يكونُ مؤديًا لا قاضيًا. قال العلامة أبو بكر علاء الدين السمرقندي في “تحفة الفقهاء” (1/ 380، ط. دار الكتب العلمية): [لا خلافَ أنه إذا أخَّرَ ثم أدَّى في سنة أخرى، فإنه يكونُ مؤديًا ولا يكون قاضيًا؛ بخلافِ العباداتِ المؤقتةِ إذا فاتتْ عن أوقاتها ثم أُدِّيتْ يكونُ قضاءً بالإجماعِ] اهـ.

وقد اتَّفق الفقهاءُ على أنَّ المستطيعَ إذا مات قبل أن يحُجَّ مع تمكُّنه ولم يُوصِ بالحَجِّ عنه يكونُ آثمًا؛ قال الإمام الكاساني الحنفي في “بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع” (2/ 221، ط. دار الكتب العلمية): [مَنْ عليه الحجُّ إذا مات قبل أدائِه فلا يخلو إما إن مات من غيرِ وصيَّة، وإما إن مات عن وصيَّة؛ فإن مات من غير وصيَّة يأثمُ بلا خلافٍ] اهـ.

وقد اختلفَ الفقهاءُ: هل وجوبُ الحجِّ يكونُ على الفور -أي فورَ استطاعةِ الحج مع القُدرةِ عليه- أو على التراخي؟

فذهب الإمامُ أبو حنيفةَ في أصحِّ الروايتين عنه، وأبو يوسف، والراجح عند المالكية، ومذهب الحنابلة: إلى أن الحجَّ يجبُ على الفور، وأن التأخيرَ فيه إثمٌ على المستطِيع حتى يحُجَّ، فإذا حَجَّ يكون مؤديًا للفريضة لا قاضيًا، ويسقط عنه الإثمُ؛ لأنها فريضةٌ وقتها العمر، فإذا أُدِّيت في أي وقت منه كانت أداءً.

قال العلامة ابن مَازَةَ البخاري الحنفي في “المحيط البرهاني في الفقه النعماني” (2/ 420، ط. دار الكتب العلمية): [ذكر الحسن الكرخي رحمه الله أنه يجبُ على الفور ولا يجوزُ التأخيرُ عن أوَّلِ أوقاتِ الإمكانِ، وهذا قولُ أبي يوسف روى عنه بشر والمعلى، قال شيخ الإسلام رحمه الله: وهو قولُ أبي حنيفة رحمه الله في أصحِّ الروايتين] اهـ.

وقال العلامة محمَّدُ بنُ أحمدَ بنِ عرفةَ الدسوقيُّ المالكيُّ في “حاشية الدسوقي على الشرح الكبير” (2/ 3، ط. دار الفكر): [وفي “التوضيح” قال: الظَّاهِرُ قولُ من شهر الفورية، وفي كلامِ ابنِ حبيبٍ ميْلٌ إليه، وكأنه ضعَّفَ حُجة القول بالتراخي؛ ولأنَّ القولَ بالفوريةِ نقَلَه العراقيون عن مالك، والقولُ بالتَّراخي إنما أُخذ من مسائلَ وليس الأخْذُ منها بقَوِيٍّ، وإذا علمتَ ذلك فقد ظهر لك أن القولَ بالفوريةِ أرجحُ، ويؤيد ذلك أنَّ كثيرًا من الفروعِ التي يذكرها المصنفُ في الاستطاعة مبنيَّةٌ على القولِ بالفورية] اهـ.

وقال العلامة عبدُ الرحمنِ بنُ محمَّدِ بنِ عسكرٍ البغداديُّ، شهابُ الدينِ المالكيُّ في “إرشاد السالك إلى أشرف المسالك في فقه الإمام مالك” (1/ 41، ط. شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده): [يلزمُ كلَّ مسلمٍ حرٍّ مكلَّفٍ مستطِيعٍ على الفورِ مرَّةً في العمر] اهـ.

وقال العلامة ابنُ قدامةَ المقدسيُّ في “المغني” (3/ 232، ط. مكتبة القاهرة): [مَن وجبَ عليه الحجُّ، وأمْكَنَه فِعْلُه، وجبَ عليه على الفورِ، ولم يَجُزْ له تأخيرُه. وبهذا قال أبو حنيفة، ومالك] اهـ.

وقد احتجُّوا للقولِ بالفوريَّةِ بأن الحجَّ يختصُّ بوقتٍ خاصٍّ من كلِّ عامٍ وهو أشْهُرُ الحج، وبأنَّ الموت في سنة واحدة غيرُ نادرٍ، بخلافِ وقتِ الصلاة؛ لأنَّ الموتَ في مثله نادِرٌ، فيضيق احتياطًا. قال العلامة بدرُ الدين العينيُّ الحنفيُّ في “البناية شرح الهداية” (4/ 141-142، ط. دار الكتب العلمية): [م -أي متن الهداية-: (وجه الأول) ش -أي الشرح عليه-: وهو قول أبي يوسف رَحِمَهُ اللهُ. م: (أنه يختص بوقت خاص) ش: وهو أشهر الحج من كل عام، وكل ما اختص بوقت خاص وقد فات عن وقته لا يدركُ إلا بإدراكِ الوقتِ بعينه، وإلا لا يكون مختصًّا به، وذلك مدة طويلة تستوي فيه الحياة. م: (والموت في سنة واحدة). ش: مشتملة على الفصول الأربعة. م: (غير نادر فيضيق احتياطًا). ش: لا تحقيقًا. م: (ولهذا) ش: أي: ولأجل الاحتياط. م: (كان التعجيلُ أفضلَ). ش: اتفاقًا. م: (بخلافِ وقت الصلاة). ش: جواب عن قوله: كالوقت في الصلاة. م: (لأن الموت في مثله نادر). ش: يعني: لأنَّ الموتَ في مثلِ وقتِ الصلاةِ فجأةً نادِرٌ] اهـ.

واستدلُّوا أيضًا بما رواه الإمامُ أحمدُ عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: «تَعَجَّلُوا إِلَى الْحَجِّ -يَعْنِي: الْفَرِيضَةَ- فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لا يَدْرِي مَا يَعْرِضُ لَهُ».

وكذلك ما رواه الإمام ابن أبي شيبة في “مصنفه” عن عبدالرحمن بن سابط أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَحُجَّ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ لَمْ يَمْنَعْهُ مَرَضٌ حَابِسٌ، أَوْ حَاجَةٌ ظَاهِرَةٌ، أَوْ سُلْطَانٌ جَائِرٌ، فَلْيَمُتْ عَلَى أَيِّ حَالٍ شَاءَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا». ووصله الإمام الدارمي في “سننه” عن أبي أمامة رضي الله عنه.

وكذلك ما رواه الإمامُ الترمذيُّ في “سننه” عن أميرِ المؤمنين سيدِنا علي بن أبي طالب كرَّم الله وجهه ورضي عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «مَنْ مَلَكَ زَادًا وَرَاحِلَةً تُبَلِّغُهُ إِلَى بَيْتِ اللهِ وَلَمْ يَحُجَّ فَلا عَلَيْهِ أَنْ يَمُوتَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا».

ولأنَّ الأمْرَ بالحجِّ في وقته مطلقٌ يحتمل الفور، ويحتمل التراخي، والحملُ على الفَور أحْوَطُ؛ قال الإمام الكاساني الحنفي في “بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع” (2/ 119): [ولهما أن الأمر بالحج في وقته مطلَقٌ يحتملُ الفَور، ويحتملُ التراخِيَ، والحملُ على الفَور أحوطُ؛ لأنه إذا حُمل عليه يأتي بالفعل على الفور ظاهرًا وغالبًا؛ خوفًا من الإثم بالتأخير، فإن أُريد به الفورُ فقد أَتى بما أُمِرَ به فأمِنَ الضَّرر، وإن أُريد به التَّراخي لا يضرُّه الفعْلُ على الفَور، بل ينفَعُه؛ لمسارعته إلى الخير، ولو حُمل على التراخي ربما لا يأتي به على الفَور، بل يؤخر إلى السنة الثانية، والثالثة فتلحَقُه المضَرَّةُ إن أريد به الفور، وإن كان لا يلحقه إن أريد به التراخي، فكان الحملُ على الفور حملًا على أحوَطِ الوجهَيْنِ، فكان أولى، وهذا قولُ إمامِ الهدى الشيخِ أبي منصورٍ الماتريدي في كل أمْرٍ مطلَقٍ عن الوقت أنه يُحمَلُ على الفور لكِنْ عملًا لا اعتقادًا على طريق التعيين أن المراد منه الفور أو التراخي؛ بل يُعتقد أن ما أراد الله تعالى به من الفور والتراخي فهو حقٌّ، وروينا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «من ملك زادًا، وراحلةً تبلِّغُهُ إلى بيتِ الله الحرامِ فلم يحُجَّ، فلا عليه أن يموتَ يهوديًّا أو نصرانيًّا» ألحَقَ الوعيدَ بمن أخَّر الحج عن أول أوقاتِ الإمكان؛ لأنه قال: من ملك كذا فلم يحُجَّ، والفاء للتعقيب بلا فصل؛ أي لم يحج عُقَيْبَ ملك الزَّاد والراحلة بلا فصل] اهـ.

وذهب الشافعيةُ، ومحمَّدُ بنُ الحسنِ من الحنفية: إلى أن الحجَّ يجبُ على التَّراخي، قال الإمام النووي في “المجموع شرح المهذب، مع تكملة السبكي والمطيعي” (7/ 103، ط. دار الفكر): [مذهبنا أنه على التَّراخي وبه قال الأوزاعيُّ والثوريُّ ومحمَّدُ بنُ الحسنِ، ونقله الماورديُّ عن ابن عباسٍ وأنسٍ وجابرٍ وعطاءٍ وطاوسٍ رضي الله تعالى عنهم] اهـ.

وقال العلامة أبو المعالي ابنُ مَازَةَ البخاريُّ الحنفيُّ في “المحيط البرهاني في الفقه النعماني” (2/ 420): [وقال محمد: يجبُ على التَّراخي، وهو قولُ الشافعي] اهـ.

واحتجُّوا لذلك بتأخيرِ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم للحج من غيرِ عذرٍ، فيما روي أن فرضية الحج نزلت في سنة ثلاث من الهجرة، وأنَّ فتْحَ مكَّةَ كانَ في السَّنَة الثامنة، ومع ذلك فرسولُ الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لم يحُجَّ إلَّا في السَّنَة العاشرة، وما كان به عُذر، واستدلُّوا كذلك بأنَّ الحَجَّ فرض مطلقًا عن الوقت، ثم بُيِّنَ وقتُه فصار المفروضُ هو الحَجَّ في أشْهُرِ الحج في أي وقت من العمر، ولأنه وظيفة العمر؛ فكان العمر فيه كالوقت في الصلاة، وأنَّ القول بالفَور تقييدٌ للمطلق، وتقييدُ المطلق لا يجوزُ إلا بدليلٍ، وأنَّ القولَ بالفَوْريَّة يستلزمُ أن يكونَ المستطيعُ الذي يؤخِّرُ الحجَّ سنينَ ثم يحجُّ قاضيًا لا مؤديًا، وهو ما انعقد الإجماعُ على خلافِه؛ قال الإمام الكاساني الحنفي في “بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع” (2/ 119): [وجه قول محمد أن الله تعالى فرض الحج في وقت مطلقًا؛ لأن قولَه تعالى: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾ [آل عمران: 97] مطلق عن الوقت، ثم بين وقت الحج بقوله عز وجل: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ﴾ [البقرة: 197] أي: وقتُ الحجِّ أشْهُرٌ معلوماتٌ، فصار المفروضُ هو الحجَّ في أشهُرِ الحج مطلقًا من العمر، فتقييدُه بالفَوْر تقييد المطلق، ولا يجوزُ إلا بدليل.

وروي أن فتْحَ مكَّةَ كان لسَنَة ثمانٍ من الهجرة، وحَجَّ رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم في سنة العشر، ولو كان وجوبُه على الفَوْر لما احتمل التأخير منه، والدليلُ عليه: أنه لو أدى في السنة الثانية أو الثالثة يكون مؤديًا لا قاضيًا، ولو كان واجبًا على الفور وقد فات الفور، فقد فات وقته، فينبغي أن يكون قاضيًا لا مؤديًا؛ كما لو فاتت صلاةُ الظهر عن وقتها، وصوم رمضان عن وقته] اهـ.

وهذا الخلاف فيمن هو صحيح يغلبُ على ظنه إن أخَّرَ الحجَّ عامًا أو عامين أن يستطيعَ الإتيانَ به بعد ذلك، أمَّا من يغلبُ على الظن أنه إن أخَّرَه لا يستطيعُه بعد ذلك، فالأصحُّ وجوبُ الحج على الفَوْر في حقه؛ قال العلامة أبو بكر بنُ علي بنِ محمَّدٍ الحداديُّ الحنفيُّ في “الجوهرة النيرة على مختصر القدوري” (1/ 148، ط. المطبعة الخيرية): [والخلافُ فيما إذا كان غالِبُ ظَنِّه السَّلامةَ، أمَّا إذا كان غالِبُ ظنِّه الموتَ إمَّا بسببِ المرض أو الهَرَم فإنه يتضَيَّقُ عليه الوجوبُ إجماعًا] اهـ.

وقال الإمام النووي الشافعي في “المجموع شرح المهذب، مع تكملة السبكي والمطيعي” (7/ 102): [ما لم يخْشَ العَضْبَ، فإن خشيه فوجهانِ مشهورانِ في كتب الخراسانيين، حكاهما إمام الحرمين، والبغوي، والمتولي، وصاحب العدة، وآخرون. قال الرافعي: أصحُّهُما: لا يجوزُ؛ لأنَّ الواجبَ الموسَّعَ لا يجوزُ تأخيرُه إلا بشرط أن يغْلِبَ على الظَّن السلامةُ إلى وقْتِ فعْلِه. والثاني: يجوز؛ لأنَّ أصلَ الحج على التَّراخي، فلا يتغيَّرُ بأمرٍ محتملٍ، قال المتولي: ويجري هذان الوجهان فيمن خافَ أن يهْلِكَ مالُه هل له تأخيرُ الحج أم لا، والله أعلم] اهـ.

وثمرةُ اختلافِ الفقهاءِ فيما إذا كان الحج على الفَور أو على التراخي هي: هل الإثمُ يكونُ بالتأخيرِ عن أوَّلِ سنة من سنين الإمكان، أو بآخر سنة من سنين الإمكان؟

قال العلامة أبو بكرٍ علاءُ الدين السمرقنديُّ في “تحفة الفقهاء” (1/ 380): [وفائدةُ الخلافِ أنَّ مَنْ أخَّر الحجَّ عن أوَّلِ أحوالِ الإمكانِ، هل يأثم أم لا؟] اهـ.

وقال العلامة فخر الدين الزيلعي الحنفي في “تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق وحاشية الشِّلْبِي” (2/ 3): [وثمرةُ الخلافِ تظهرُ في حقِّ المأْثَمِ حتى يفْسُقَ وتُرَدَّ شهادتُه عند من يقولُ: هو على الفور ولو حج في آخِرِ عمرِه ليس عليه الإثمُ بالإجماع، ولو مات ولم يحُجَّ أَثِمَ بالإجماع] اهـ.

فعند من قالوا بأنه على الفور، يكون المستطيعُ آثمًا من أوَّلِ سنين الإمكان، ما لم يكن بعذرٍ؛ قال العلامة الكاساني الحنفي في “بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع” (2/ 119): [ذكر الكرخي أنه على الفور حتى يأثمَ بالتأخيرِ عن أوَّلِ أوقاتِ الإمكان، وهي السنة الأولى عند استجماعِ شرائطِ الوجوب] اهـ.

وقال سيدي أحمد بن محمد الدردير في “الشرح الكبير على مختصر خليل، مع حاشية الدسوقي عليه” (2/ 3، ط. دار الفكر): [وفي فوريته؛ أي: وجوب الإتيان به أوَّلَ عامِ القدرةِ عليه، فيعصي بالتأخير عنه ولو ظن السلامة، وهو المعتمَد] اهـ.

وقال العلامة أبو عليٍّ الهاشميُّ البغداديُّ في “الإرشاد إلى سبيل الرشاد” (181، ط. مؤسسة الرسالة): [ولا تُقبلُ شهادةُ مَنْ كان موسرًا قد وجب عليه الحجُّ فلم يحُجَّ إلَّا أن يكونَ به زَمَانةٌ أو أمْرٌ يحبسُه، وهو قياسٌ على سائرِ العباداتِ المؤقَّتة] اهـ.

أما من قالوا بأنه على التراخي فالمشهورُ -وهو الأصحُّ عندهم- أنه يأثم؛ قال الإمام النووي في “المجموع شرح المهذب” (7/ 110): [وهل نقول: مات عاصيًا؟ فيه أوجه مشهورة في كتب الخراسانيين، أصحُّها -وبه قطع جماهير العراقيين، ونقل القاضي أبو الطيب وآخرون الاتفاقَ عليه- أنه يموت عاصيًا] اهـ.

وقال العلامة العمراني الشافعي في “البيان في مذهب الإمام الشافعي” (4/ 48-49): [فإذا ثبت ما ذكرناه، ووجب عليه الحج، فلم يحج حتى مات.. فهل يأثم بذلك؟ فيه ثلاثة أوجه: أحدها: حكاه القفال، أنه لا يأثم بذلك؛ لأنا جوَّزنا له التأخير، فلم يفعل شيئًا محظورًا.

والثاني: حكاه ابن الصباغ، إن خاف الكِبَر والفقر والضعف، فلم يحُجَّ حتى مات.. أَثِمَ بذلك، وإن اخترمته المنية قبل خوف الفوات.. لم يأثم؛ لأنه لا يمتنع أن يُعلِّق الحكم على غلبة ظنه؛ كقوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ﴾ [البقرة: 180]، وأراد: إذا غلب على ظنه.

والثالث -وهو المشهور، ولم يذكر الشيخ أبو حامد غيرَه-: أنه يأثم؛ لأنه إنما جوَّزنا له التأخيرَ بشرط السلامة] اهـ.

أما متى يأثم؟ فعندهم فيه أوجه؛ قال العلامة العمراني الشافعي في “البيان في مذهب الإمام الشافعي” (4/ 49): [فإذا قلنا بهذا، فمتى يأثمُ؟ فيه أربعةُ أوجه:

أحدها: أنه يأثم بتأخيره عن السنة الأخيرة التي فاته الحج بتأخيره عنها؛ لأن الفواتَ حصل بها.

والثاني: يأثم بتأخيره عن السنة الأولى؛ لأنه إنما جُوِّزَ له التَّأخيرُ عنها بشرط أن يفعَلَه بعدها، فإذا لم يفعل.. تبين أنه أثم بتأخيره عنها.

والثالث: أنه يأثم لا في وقت بعينه، وإنما يحكم عليه -بالموت قبل الحج- بالإثم.

والرابع: أنه يأثم من حين تبَيَّنَ في نفسِه الضَّعْفَ والكبرَ؛ لأنه كان من سبيله أن يحُجَّ قبل ذلك] اهـ.

واتَّفق الفقهاءُ على أنه إذا أوصى بالحج قبل موته وكان له ترِكَةٌ فإنه يُحَجُّ عنه، فيُحَجُّ عنه مِن ثُلُث المال على ما ذهب إليه الحنفيَّة والمالكيَّة؛ قال العلامة الكاساني الحنفي في “بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع” (2/ 222): [وإن مات عن وصيَّة لا يسقطُ الحجُّ عنه، ويجبُ أن يُحَجَّ عنه؛ لأن الوصيَّةَ بالحج قد صحَّتْ.. ويُحَجُّ عنه من ثُلُث ماله، سواء قيد الوصية بالثلث بأن يحج عنه بثلث ماله، أو أطلق بأن أوصى أن يُحَجَّ عنه، أمَّا إذا قيد فظاهر، وكذا إذا أطلق؛ لأنَّ الوصيَّةَ تنفذُ من الثلث] اهـ.

وقال القاضي عبد الوهاب البغدادي المالكي في “الإشراف على نكت مسائل الخلاف” (1/ 458، ط. دار ابن حزم): [إذا مات قبل أن يحُجَّ، لم يلزم الحجُّ عنه من رأس ماله ولا من ثلثه إلا أن يوصِيَ بذلك، فيكون ذلك في ثلثه] اهـ.

وذهب الشافعية والحنابلة إلى أنه يُحَجُّ عنه من جميعِ التركة، ولم يفرقوا بين ما إذا أوصى أو لم يوصِ؛ قال الإمام النووي الشافعي في “المجموع شرح المهذب” (7/ 110): [وإن مات بعد التمكُّن من أداء الحج، بأن مات بعد حج الناس استقرَّ الوجوبُ عليه، ووجب الإحجاجُ عنه من تركته] اهـ.

وقال العلامة ابن قدامة المقدسي الحنبلي في “المغني” (3/ 233): [متى تُوُفي مَنْ وجبَ عليه الحَجُّ ولم يحُجَّ، وجَبَ أن يُخْرَجَ عنه من جميعِ ماله ما يُحَجُّ به عنه ويُعْتَمَر، سواء فاته بتفريطٍ أو بغيرِ تفريط. وبهذا قال الحسنُ، وطاوسٌ، والشافعي. وقال أبو حنيفة ومالك: يسقط بالموت، فإن وصَّى بها فهي من الثلث، وبهذا قال الشعبي والنخعي] اهـ.

إلا أنهم اختلفوا فيما إذا مات ولم يوصِ بالحج عنه، هل يجب الحج عنه أو لا؟

فيرى الحنفيَّة والمالكيَّة أن الحجَّ لا يتعلَّقُ بالتركة؛ فإن أوصى بالحج عنه قبل الموت حُجَّ عنه من الثلث، وإن مات ولم يوصِ تسقط عنه الفريضةُ من الأمور الدنيوية، فلا تتعلَّق بالتركة مع أنه مؤاخَذٌ بها في الآخرة، وعلَّلوا ذلك بأنها عبادةٌ بدنيَّةٌ تسقطُ بالموت كالصلاة.

قال شمس الأئمة العلامة السرخسي الحنفي في “المبسوط” (27/ 146، ط. دار المعرفة): [فنقول فيما يجب حقًّا لله تعالى خالصًا كالزكاة والحج لا يصير دينًا في التركة بعد الموت مقدَّمًا على الميراث؛ ولكنه ينفذُ من الثلث إن أوصى به كما ينفُذُ بسائرِ التبرُّعات، وإن لم يوصِ به فهو يسقطُ بالموت في أحكام الدنيا، وإن كان مؤاخذًا في الآخرة بالتفريط في الأداء بعد التمكُّن منه، وعلى قول الشافعي يصير ذلك دَينًا في تركته مقدَّمًا على الميراث، أوصى به أو لم يوصِ] اهـ.

وقال القاضي أبو محمد عبد الوهاب بن علي بن نصر البغدادي المالكي في “الإشراف على نكت مسائل الخلاف” (1/ 458): [إذا مات قبل أن يحُجَّ، لم يلزم الحجُّ عنه من رأس ماله ولا من ثلثه إلا أن يوصيَ بذلك، فيكون ذلك في ثلثه] اهـ.

فذلك لأنهم يرون أن العباداتِ لا ينوبُ فيها أحدٌ عن أحد، فلا يصلي شخصٌ عن آخرَ، واستدلوا كذلك بقوله تعالى: ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى﴾ [النجم: ٣٩]، فقالوا: إن من أَمَر بالحج عنه، أو أَوْصى به، فإنه يكونُ له فيه سعْيٌ.

ويرى الشافعية والحنابلة أن الحجَّ لا يسقطُ عنه بالموت، ويجبُ قضاؤه من تركته، سواء أكان قد أوصى بذلك أم لم يوصِ، وعلى ذلك فيَلْزَمُ وارثَه أن يحُجَّ عنه من تركته، أو يستأجرَ من يحُجُّ عنه إن كان له تركة؛ لأنه حقٌّ استقَرَّ عليه تدْخُلُه النيابةُ، فلم يسقطْ بالموت كالدَّيْن، وأنه بخلافِ الصلاة؛ فإنها لا تدْخُلُها النيابةُ.

قال الإمام النووي الشافعي في “المجموع شرح المهذب” (7/ 110): [فلو استقَرَّ عليه الحجُّ ومات ولم يحج ولا تركَةَ له، بقي الحجُّ في ذِمَّته، ولا يلْزَمُ الوارثَ الحجُّ عنه، لكن يستحبُّ له، فإن حجَّ عنه الوارثُ بنفسه أو استأجر من يَحُجُّ عنه سقطَ الفرضُ عن الميت سواء كان أوصى به أم لا] اهـ.

وقال العلامة ابن قدامة المقدسي الحنبلي في “المغني” (3/ 233): [متى تُوُفي مَن وجب عليه الحج ولم يحج، وجب أن يُخْرَجَ عنه من جميعِ ماله ما يُحَجُّ به عنه] اهـ.

وبناءً على ذلك: فعلى المستطيعِ للحج ماليًّا وبدنيًّا المبادرةُ والتعجيلُ إلى ذلك على سبيلِ النَّدْبِ والاستحباب، فإن غلب على ظنِّه السَّلامةُ والاستطاعةُ بعد ذلك، جاز له تأخيرُه ولا إثْمَ عليه، وإن أدَّاه وقع أداءً لا قضاءً، ويتضيق هذا الوجوب بسبب غلبة الظن بالموت بظهور المرض أو الهَرَم.

أما من كان مستطيعًا وماتَ قبل أدائه فلا يخلو من أن يكونَ قد مات عن وصيَّةٍ وله ترِكَةٌ؛ فيُحَجُّ عنه وجوبًا من ثُلُث ماله على ما ذهب إليه الحنفيَّة والمالكيَّة، ومن جميعِ ماله على ما ذهب إليه الشافعيَّةُ والحنابلةُ.

أو يكون قد مات من غير وصيَّةٍ وكان له ترِكَةٌ؛ فلا يلْزَمُ ورثَتَه الحجُّ عنه، بل يستحبُّ؛ خروجًا من الخلاف، ومثله من مات ولم يكن له تركَةٌ ولم يوصِ.

والله سبحانه وتعالى أعلم.

زر الذهاب إلى الأعلى