ما زال الصراع فى أوكرانيا، بعد دخوله العام الثانى، يثري الكثير من الأسئلة حول سيناريوهات الستقبل، مع ظهور تحولات وأوراق وتقاطعات، خاصة أنه صراع يلقى بظلاله على الاقتصاد والتجارة بشكل تجاوز ما كان أثناء الحروب العالمية أو الحرب الباردة، التى بدا أنها انتهت لكنها ولدت صراعات أخرى ما تزال تطل برأسها.
دخلت الحرب عامها الثانى وتستمر حالة «عدم اليقين» وسط نظام عالمى لا يزال عاجزا عن التدخل فى صراع يدفع العالم ثمنه كل صباح، فى انعكاسات اقتصادية وسياسية لأكبر مواجهة بين روسيا والغرب منذ انتهاء الحرب الباردة، ويتمسك كل طرف بموقفه، الرئيس الأمريكى جو بايدن أعلن فى وارسو استمرار دعم أوكرانيا، وقال مندوب روسيا الدائم لدى المنظمات الدولية فى فيينا ميخائيل أوليانوف، إنه بعد مرور عام على الحرب فى أوكرانيا لا توجد حلول حتى الآن بين الجانبين الروسى والأوكرانى.
وأعلن الرئيس الروسى بوتين، فى الخطاب السنوى منذ إعلان الحرب، تعليق العمل بمعاهدة «ستارت»، للحد من الأسلحة الاستراتيجية الموقعة مع الولايات املتحدة، واتهم الغرب باستخدام النزاع فى أوكرانيا للقضاء على روسيا، التى تواجه اليوم خطرا وجوديا ومن المستحيل هزيمتها فى أرض المعركة، وستتعامل بطريقة مناسبة إزاء تحويل الصراع إلى مواجهة عالمية، بل إن هناك دعاوى ومطالب من خبراء روس بأن تنسحب موسكو من المؤسسات الدولية، وطرح «معهد الاستراتيجيات السياسية والاقتصادية الدولى الروسى» تقريرا قال فيه إنه رغم تأكيد الغرب ضرورة حضور روسيا فى المنصات الدولية من أجل الدفاع عن موقفها، إلا أن المنصات جميعها باستثناء مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، أصبحت قناة لخلق صراعات، وأن استمرار وجود روسيا فى المنظمات ً الدولية التى تسيطر عليها الولايات المتحدة لن يجدى نفعا، لأن الغرب بعد الحرب العالمية الثانية شكل أيديولوجية «النظام العالمى الجديد»، وأعد استراتيجية لاستيعاب الاتحاد السوفيتى عن طريق إدماجه فى مؤسسات دولية مثل نادى روما.
روسيا تدفع نحو الانسحاب من المنظمات التى ترى أن الولايات المتحدة تسيطر عليها، أو تستخدمها لأغراض مختلفة، وهذا الاتجاه حسب بعض المراقبين، يشري إلى اتجاه لإعادة بناء نظام عالمى يختلف عما هو قائم، وأن هذا النظام يفترض أن يخلو من الازدواجية والانحياز، ويتناسب حسب الأوزان النسبية للاقتصادات الكبرى، وبشكل يجعله أكثر فاعلية.
ويرى محللون أن التحول الكيفى فى توازنات القوة بالعالم، يأتى استجابة لمطالب متعددة، على مدى أكثر من عقدين منذ ما بعد الحرب الباردة، التى قد تكون انتهت أيديولوجيا، لكنها لم تنته بشكل حاسم، لأنها تركت فراغات وصنعت اختلالا أنتج فوضى وإرهابا وصراعات عجز النظام العالمى عن التدخل فيها، بسبب كونه نظاما ناقصا، وبالتالى فقد فتح الباب لأدوار متعددة فى الشرق الأوسط على سبيل المثال لروسيا والصين.
وتشير كثير من التحليلات إلى أن الحرب فى أوكرانيا لم تكن هى وحدها التى أظهرت السعى لإعادة ترتيب القوة والنفوذ فى العالم، وأن هذا السعى بدأت مظاهره قبل الحرب، حيث ترى دول مثل الصين وروسيا، ضرورة إنهاء أحادية النفوذ، وأن يكون هناك نظام عالمى أكثر توازنا، تبدو فيه الولايات المتحدة إحدى القوى الفاعلة وليست القوة الوحيدة، مثلما كان فى بداية الألفية، لأن انفراد الولايات المتحدة انتهى بغزو وصراعات، وفراغات أنتجت تنظيمات إرهابية، وفوضى فى الشرق الأوسط.
ثم إن وعود العولمة وحرية التجارة الدولية، لم تخل من منافسة واستقطابات، وفى عهد الرئيس الأمريكى السابق دونالد ترامب، اعترضت الولايات المتحدة التى قادت تيار العولمة وحرية التجارة، على اختلال الميزان مع الصين، واتهمت واشنطن بكين بخرق قواعد التجارة الدولية، بل إن الولايات المتحدة سعت لمواجهة مع حلفاء تقليديين، وفرضت رسوما على وارداتها من بعض دول أوروبا، تزامنت مع اتهامات أمريكية لروسيا بالتدخل فى الانتخابات الأمريكية، واستمرت التوترات بني الولايات المتحدة والصين.
وبينما كانت الصين آخر من طرح مبادرة لوقف الحرب فى أوكرانيا، جاء الاتفاق السعودى الإيرانى برعاية صينية ليؤكد ما سبق طرحه من محللين أن الولايات المتحدة تنسحب ببطء من الشرق الأوسط، تاركة فراغا فى السلطة تسده الصين، رغم أن الرئيس الأمريكى بايدن خلال رحلته إلى الشرق الأوسط فى يوليو الماضى، أعلن أن بلاده «لن تبتعد وتترك فراغا كى تملأه الصين أو روسيا أو إيران»، بينما يرى مراقبون أن الشرق الأوسط أصبح مجالا مفتوحا يرحب بالتعاون مع الصين اقتصاديا وتجاريا، وما هو أكثر، وأن وجود الصين ينمو خلال السنوات الأخرية فى الاقتصاد والدبلوماسية والقوة الناعمة، مما يجعل بكين طرفا فاعلا، ويطرح توقعات حول مدى التحول الجارى فى أوراق القوة والنفوذ فى العالم.
وترى صحيفة واشنطن بوست، أن التركيز على الدور الذى قامت به الصين فى هذا الاتفاق ربما يستهدف توجيه رسالة للقوى العظمى، ومن بينها الولايات المتحدة، «مفادها أن محور الشرق الأوسط يتغير»، وأن دول الإقليم تسعى لضمان مصالحها وإخماد صراعات لم يعد الإقليم يتحمل تبعاتها فى ظل أزمة اقتصادية غير مسبوقة، وأن استمرار الحرب فى أوكرانيا من دون أفق، يدفع كل دولة، وكل تجمع، ً للبحث عن بدائل اقتصادية وتجارية تؤمن حاجاتها، بعيدا عن نظام عالمى عاجز رغم اتفاقيات التجارة، والعولمة التى تتعثر مع نظام عالمى ما زال يحمل الكثير من السيناريوهات، وأن يحل السلام مكان الصراع.