تعد اليابان نموذجا شاهدا على أن التنمية الاقتصادية والاجتماعية وحدها كافية للوصول بالخصوبة إلى معدل الإحلال فى أوائل ستينيات القرن الماضى، ودون اتباع أى سياسة سكانية تستهدف ذلك فى أى فترة من الفترات.
ورصدت دراسة صادرة مؤخرا عن المركز المصرى للدراسات الاقتصادية، أبرز عناصر تجربة اليابان فى خفض معدلات الخصوبة، حيث تراجع معدلات الخصوبة بسبب التنمية الاقتصادية والاجتماعية بالرغم من تحفيز الدولة للنمو السكانى حتى الحرب العالمية الثانية، على الرغم من اتباع الحكومة اليابانية سياسة سكانية تستهدف زيادة معدلات الخصوبة حتى الحرب العالمية الثانية، إلا أنها لم تنجح فى تغيير اتجاه الخصوبة الآخذ فى التراجع بفعل التنمية الاقتصادية والاجتماعية المتسارعة فى ذلك الوقت.
وتقول الدراسة، إن الحكومة اليابانية نجحت فى تحديث الاقتصاد والتحول من الزراعة إلى الصناعة، بالإضافة إلى النهوض بمستويات التعليم وتحقيق تنمية اقتصادية حقيقية فى وقت مبكر، فقد انخفضت نسبة من يعملون بالزراعة من 54% إلى 25% بين 1920 و1940، وارتفعت نسبة من يعيشون فى الحضر من 18 إلى 38% خلال نفس الفترة، كما نجح الاستثمار الجاد فى التعليم فى القضاء على الأمية بشكل كامل فى 1920 فيما عدا أمية كبار السن.
وعقب الحرب العالمية الثانية تراجعت الحكومة اليابانية عن سياساتها الداعمة للنمو السكانى، نتيجة زيادة الأعباء الاقتصادية للدرجة التى دفعت اليابان لاستيراد الأرز لإطعام شعبها لأول مرة، ولجأت إلى تقنين عمليات الإجهاض عام 1948، حيث كان الحمل يمثل تهديدا لصحة المرأة أو رفاهتها الاجتماعية والاقتصادية وفى عام 1952، بدأت الحكومة برنامجا لتنظيم الأسرة بهدف الحد من الآثار السلبية للإجهاض على صحة المرأة وليس تخفيض معدل الخصوبة، كما كان دور الحكومة محدودا فى تنفيذ البرنامج مقارنة بدور المجتمع المدنى وشركات القطاع الخاص التى أخذت على عاتقها تصميم برامج لتنظيم الأسرة وتحمل تكلفتها لارتباط الإنتاجية ارتباطا وثيقا برفاهية العامل خارج العمل واستقراره الصحى والنفسي.
ركزت الحكومة اليابانية جهودها عقب الحرب فى عمليات إعادة البناء التى انتهت منها بحلول عام 1965، وأخذت على عاتقها عمليات التحديث وبناء رأس المال الاجتماعى والاقتصادى خاصة التعليم والصحة كأولوية قصوى، وفى هذا الصدد تشير بيانات البنك الدولى إلى أن الإنفاق الحكومى على التعليم قد سجل 5.6% من الناتج المحلى الإجمالى فى منتصف الثمانينيات مقابل 4.7% فى منتصف السبعينات، كما ارتفع الإنفاق على الصحة من 5.8% من الناتج المحلى الإجمالى فى عام 2000 إلى 9.1% فى 2016.
وعملت الحكومة أيضا على استقرار المناخ الاقتصادى الكلى، وهو ما شجع الادخار والاستثمار المحلى على أن يسجلا 30% على الأقل حتى منتصف التسعينيات، بالإضافة إلى تشجيع القطاع الخاص وتقديم الحوافز اللازمة للصناعات التصديرية على وجه التحديد، فانخفضت معدلات البطالة إلى ما دون الـ 3% حتى منتصف التسعينيات ثم ارتفعت لتقارب 5% خلال الأزمة الآسيوية والأزمة المالية العالمية، إلا أنها بدأت فى الانخفاض من جديد منذ 2010 لتسجل 2.4% فى 2017، وانعكست هذه الجهود الحكومية فى النهاية على مستويات المعيشة ونصيب الفرد من الناتج المحلى الإجمالى الذى ارتفع باستمرار منذ الستينيات ليسجل حوالى 50 ألف دولار فى 2017 بأسعار 2010.
وأدى تمكين المرأة متمثلا بشكل أساسى فى النهوض بالتعليم، مصحوبا بتوفير فرص العمل إلى ارتفاع متوسط سن الزواج إلى 30 سنة للإناث و31 سنة للذكور، من ناحية وارتفاع تكلفة الفرصة البديلة للإنجاب من ناحية أخرى، كما أدى ارتفاع مستويات المعيشة إلى عدم التعامل مع الأطفال كأصل اقتصادى مدر للدخل والاهتمام بالكيف دون الكم، ونتج عن ذلك كله التوجه طواعية لتكوين أسر صغيرة الحجم فانخفض معدل الخصوبة بشكل مستمر منذ الخمسينيات حتى الآن ليسجل أدنى مستوى له عند 1.3 طفل لكل سيدة خلال الفترة “2005-2010”.